مع أفراح الديمقراطية في تركيا بقلم د.سعد الدين ابراهيم المصري اليوم ٤/٨/٢٠٠٧
شاركت مع مئات من المراقبين الأجانب في أيام الديمقراطية في تركيا، حيث وصلت إلي اسطنبول في اليوم السابق لإجراء الانتخابات البرلمانية «٢١/٧»، والتي تمت بنجاح منقطع النظير يوم الأحد ٢٢/٧، وشاركت في اليوم التالي في مائدة مستديرة، ضمت عشرة آخرين من الأساتذة والخبراء والسياسيين الأتراك، نظمتها المؤسسة التركية للدراسات الاقتصادية والاجتماعية، وجامعة صابنجي. وأدار النقاش الدكتور منصور أكوجن، رئيس قسم العلاقات الدولية.
ومن المفارقات المبكرة أنه لم يوجد بين المشاركين في الحوار أحد من الحزب الذي فاز في الانتخابات، وهو حزب « العدالة والتنمية»، والذي يختصر الجميع اسمه بالحروف اللاتينية الثلاثة .
AKP
وقيل إن جميع أقطاب الحزب، إما مرهقين من الحملة الانتخابية التي استمرت شهرين مكثفين، أو أنهم مشغولون بتشكيل الحكومة الجديدة، أو يشاركون في احتفالات دوائرهم بالنصر الكبير.
أما لماذا دعيت أنا للمشاركة في مائدة مستديرة لا تضم إلا الأتراك، فقد كان لرغبتهم ورغبة الجمهور في التعرف علي وجهة نظر مصرية ـ عربية لتداعيات هذا الحدث الكبير علي المنطقة الشرق أوسطية عموماً، ومصر خصوصاً، التي تتمتع بين الأتراك بمكانة خاصة، ويتابعون ما يحدث فيها بشغف واهتمام.
أما لماذا اعتبر الأتراك هذه الانتخابات، تحديداً حدثاً حاسماً، فهو للأسباب التالية:
١ـ وقعت الانتخابات في تاريخ مبكر عدة شهور، عن موعدها الاعتيادي في أواخر الخريف، وهذا أمر يسمح به الدستور التركي ـ وهو التعديل أو التأجيل في حدود ستة شهور، بناء علي قرار من الحكومة وموافقة البرلمان.
٢ـ وجاء هذا التعجيل من حكومة حزب العدالة والتنمية، برئاسة رجب طيب أردوغان، كنوع من التحدي للمؤسسة العسكرية التركية، التي تدير معظم الشأن السياسي التركي من وراء الستار. فإذا لم يستجب لرغباتها فإنها قد تتدخل مباشرة، بانقلاب عسكري، تستولي فيه علي السلطة، لسنة أو أكثر إلي أن تعيد ترتيب الأوضاع الداخلية، أو الإقليمية، طبقاً لأولوياتها. وهو ما حدث عامي ١٩٦٠ و١٩٨٠ وعام ١٩٩٩.
٣ ـ ولكن المفارقة التي جعلت أردوغان وحزبه يقبلان علي هذه المغامرة، التي تنطوي علي تحد للجيش التركي، الذي يحظي بتأييد أكثر من ٧٠% من الأتراك كأكثر مؤسساتهم مدعاة للثقة والاحترام. وكانت المعركة حول اختيار رئيس للجمهورية. فالجيش لا يريد رئيساً ترتدي زوجته حجاباً، وللحيلولة دون ذلك أوعز لما يكفي من أعضاء البرلمان المعارضين لحزب العدالة بالتخلف عن جلسات البرلمان، الذي ينتخب فيها رئيس الجمهورية، حتي لا يتوفر النصاب المطلوب لشرعية انعقاد الجلسة، وهو ثلثا الأعضاء.
٤ ـ كان مرشح حزب العدالة والتنمية لرئاسة الجمهورية، هو عبد الله جول، وزير الخارجية، وكان يمكن أن تتخلي زوجته عن غطاء الرأس، والذي لا ترتديه أغلبية التركيات. وحتي هي لم تبدأ في ارتدائه إلا منذ سنوات قليلة. ولكنها وزوجها ومعهما الحزب اعتبروا الأمر قضية مبدأ، وهي حرية المواطن أو المواطنة التركية في اختيار الزي الذي يريده ما دام ليس هناك قانون يمنع أو يفرض زياً بعينه «كقانون الشرطة أو القوات المسلحة، مثلاً». أما وجهة نظر الجيش والقوي العلمانية التركية فهي استنكاف أن ترتدي زوجة رئيس الجمهورية زياً إسلامياً محافظاً،
يعتبرونه "متخلفاً"، ويمثل خروجاً علي الإصلاحات الحداثية للأب الرمزي لتركيا «أتاتورك»، وهو مصطفي كمال، الذي قاد ثورة علي سلاطين آل عثمان، وألغي نظام الأزياء العثمانية، بما فيها الطربوش واستبدلها بأزياء غربية، بما فيها القبعة. وتنص المادة ٥٨ من قانون الجيش التركي علي أنه حامي حمي النظام الجمهوري والعلمانية في تركيا.
٥ ـ يشعر الجيش التركي بالإحباط لعدم صدور أوامر من الحكومة له بالتحرك لقمع حزب العمال الكردي، جنوب شرق تركيا، في الشريط المحاذي لشمال العراق، وحيث يري حزب العدالة والتنمية، أن الأفضل هو التوصل إلي حلول سياسية بالتفاوض مع الجيران «العراق وسوريا وإيران» وحيث يوجد أكراد علي جانبي الحدود. وهو اتجاه يؤيده الاتحاد الأوروبي، التي ترغب تركيا بالانضمام إليه، ويعتقد أردوغان أن إطلاق يد الجيش التركي في هذا الملف الكردي يمكن أن يؤدي إلي صراع مسلح ممتد،
لا نحُمد عقباه، فضلاً عن تبديد فرص تركيا في الانضمام إلي الاتحاد الأوروبي، والذي تبحث بعض دوله، وفي مقدمتها فرنسا عن أسباب للاعتراض علي انضمام تركيا. وكانت "المسألة الكردية" هي إحدي أهم المسائل التي احتدم الجدل حولها قبل وأثناء المعركة الانتخابية. وقد أراد أردوغان وحزبه حسم هذا الجدل بالحصول علي تفويض واضح من أغلبية الناخبين الأتراك في هذه المسألة وغيرها من مسائل خلافية، يعطي الجيش التركي نفسه حق الفيتو فيها.
٦ ـ يضاعف من إحباط المؤسسة العسكرية التركية، إلي جانب مسألة الحجاب في القصر الجمهوري والكوابح الحكومية في المسألة الكردية، أن أحد شروط قبول تركيا في الاتحاد الأوروبي هو السيطرة المدنية علي القوات المسلحة. وهذا يعني أن يكون وزير الدفاع «أو الحربية» مدنياً، وان يكون القائد الأعلي للقوات المسلحة مدنياً منتخباً ديمقراطياً، أي رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء. وكما هو الحال في معظم بلدان العالم الثالث، يصعب علي العسكريين نفسياً واجتماعياً، أن يتلقوا أوامر من قيادة مدنية، حيث تعودوا هم أن يعطوا الأوامر للآخرين!
في كل الأحوال، شعر الجميع هنا في تركيا، من سائق التاكسي بالمطار، إلي العاملين في الفندق، إلي المثقفين ورجال الأعمال، أن انتخابات الأحد ٢٢ يوليو ٢٠٠٧، ستحسم كثيراً من المسائل الحيوية المعلقة في حياتهم، ولو إلي حين. لذلك عاد المصطافون خارج تركيا من مدنها الشاطئية إلي مقار دوائرهم الانتخابية، واستيقظ الجميع مبكرين،
كما لو كان يوم عيد، واصطفوا أمام المدارس، حيث توجد، كما هو الحال عندنا، مراكز الاقتراع. ولم ألمس أنا في خمسة من مقار الاقتراع التي طُفت عليها بالتاكسي مع مرافق تركي، أي مشكلات أو حتي مظاهر توتر أو صياح أو هتاف، ولم أر أي لافتات انتخابية، حيث تم منع وإزالة أي دعايات قبل الانتخابات بأربع وعشرين ساعة. وقد ذكر مراقبون آخرون ممن راقبوا في مدن أخري، ورأيتهم في الفندق مساء يوم الانتخابات وفي اليوم التالي، نفس الشيء: الهدوء والنظام، ومظاهر الفرح والبهجة من الأطفال خارج مراكز الاقتراع.
كما كان إقبال النساء والشباب ملحوظاً. وضمن ما رأيته من مشاهد مؤثرة، أحد المواطنين يحجل علي عكازين، وإحدي ساقيه في الجبس، وهو يسعي إلي مركز للاقتراع في حي السلطان أحمد، قرب مسجد أيا صوفيا،
وآخر عجوز في كرسي متحرك تدفعه ابنته، أو ربما حفيدته إلي مركز آخر، قرب المسجد الأزرق. وسهر الأتراك إلي الحادية عشرة مساء، إلي أن أعلنت آخر النتائج، واستمعوا إلي خطاب قصير من رجب طيب أردوغان، الذي فاز حزبه بأكثرية مقاعد البرلمان الجديد، بنسبة ٤٧% من جملة من أدلوا بأصواتهم.
وفي كلمته، شكر أردوغان من منحوه ومن لم يمنحوه أصواتهم، وذكر أن الأتراك كانوا تحت أنظار العالم بأسره في ذلك اليوم، وقد شرّفوا تركيا، وبهروا العالم بسلوكهم الحضاري المسؤول،
وبإقبالهم غير المسبوق علي التصويت، بنسبة ٨٢%، والذي هو أعلي من المعدلات المقارنة في بلدان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. كما أكد التزامه بأن يكون رئيس وزراء لكل الأتراك، بأن يلتزم حزبه «العدالة والتنمية»، AKP بحماية الجمهورية واحترام علمانية تركيا، والاستمرار في تنمية تركيا بنفس المعدلات التي تحققت في السنوات الخمس الأخيرة «٦% سنوياً» أو أعلي، والمثابرة في طلب عضوية الاتحاد الأوروبي.
تكررت عبارة «الاكتساح»، landslide في وصف نتيجة الانتخابات، رغم أن حزب العدالة والتنمية لم يحصل إلا علي ٤٧% من جملة الأصوات، أي أقل من الأغلبية، التي هي أكثر من ٥٠%. وجاءت الإجابة خلال محاورات المائدة المستديرة في اليوم التالي، وهي:
١ ـ أن كثرة عدد الأحزاب في تركيا تؤدي إلي تفتيت الأصوات، ولم يحصل أي حزب في أي انتخابات سابقة علي ٥٠% منذ عام ١٩٥٠ والمرة الوحيدة التي تحقق فيها ذلك كانت في أول انتخابات بعد الأخذ بنظام التعددية الحزبية عام ١٩٤٦، وبهذا المعني فإن ما حصل عليه حزب العدالة والتنمية «٤٧%» هو الأقرب إلي ٥٠% خلال النصف قرن الأخير.
٢ ـ أن هذه هي المرة الأولي في تاريخ الديمقراطية التعددية التركية التي يفوز فيها نفس الحزب مرتين متتاليتين.
٣ ـ أن الحزب لم يفز فقط للمرة الثانية علي التوالي، ولكنه أيضاً رفع هامش فوزه، أكثر من عشر نقاط مئوية، من ٣٤ إلي ٤٧%. هذا رغم المظاهرات المضادة التي كانت قد نظمتها الأحزاب القومية العلمانية في كبريات المدن التركية، ضد حزب العدالة والتنمية، تعبيراً عن الخوف علي جمهورية «تركيا العلمانية» من زحف إسلامي.
رغم أن أعضاء المائدة المستديرة من الأتراك لم يكونوا من أنصار حزب العدالة والتنمية، فإنهم جميعاً عبّروا عن إعجابهم الشديد بزعيم الحزب، والطريقة التي أدار بها الأزمات والاستفزازات التي اختلقها الجيش والعلمانيون المتشددون، كذلك أشادوا بمهارته في كسب رجال الأعمال، وعدم التعرض للحريات الشخصية وأسلوب حياة المواطنين الأتراك.
وإلي أن تتاح فرصة تلخيص وجهة النظر المصرية والعربية التي شاركت بها في المائدة المستديرة، أقول هنيئاً للأتراك بآخر أعراسهم الديمقراطية، وعقبال المصريين والعرب، آمين.
أما لماذا دعيت أنا للمشاركة في مائدة مستديرة لا تضم إلا الأتراك، فقد كان لرغبتهم ورغبة الجمهور في التعرف علي وجهة نظر مصرية ـ عربية لتداعيات هذا الحدث الكبير علي المنطقة الشرق أوسطية عموماً، ومصر خصوصاً، التي تتمتع بين الأتراك بمكانة خاصة، ويتابعون ما يحدث فيها بشغف واهتمام.
أما لماذا اعتبر الأتراك هذه الانتخابات، تحديداً حدثاً حاسماً، فهو للأسباب التالية:
١ـ وقعت الانتخابات في تاريخ مبكر عدة شهور، عن موعدها الاعتيادي في أواخر الخريف، وهذا أمر يسمح به الدستور التركي ـ وهو التعديل أو التأجيل في حدود ستة شهور، بناء علي قرار من الحكومة وموافقة البرلمان.
٢ـ وجاء هذا التعجيل من حكومة حزب العدالة والتنمية، برئاسة رجب طيب أردوغان، كنوع من التحدي للمؤسسة العسكرية التركية، التي تدير معظم الشأن السياسي التركي من وراء الستار. فإذا لم يستجب لرغباتها فإنها قد تتدخل مباشرة، بانقلاب عسكري، تستولي فيه علي السلطة، لسنة أو أكثر إلي أن تعيد ترتيب الأوضاع الداخلية، أو الإقليمية، طبقاً لأولوياتها. وهو ما حدث عامي ١٩٦٠ و١٩٨٠ وعام ١٩٩٩.
٣ ـ ولكن المفارقة التي جعلت أردوغان وحزبه يقبلان علي هذه المغامرة، التي تنطوي علي تحد للجيش التركي، الذي يحظي بتأييد أكثر من ٧٠% من الأتراك كأكثر مؤسساتهم مدعاة للثقة والاحترام. وكانت المعركة حول اختيار رئيس للجمهورية. فالجيش لا يريد رئيساً ترتدي زوجته حجاباً، وللحيلولة دون ذلك أوعز لما يكفي من أعضاء البرلمان المعارضين لحزب العدالة بالتخلف عن جلسات البرلمان، الذي ينتخب فيها رئيس الجمهورية، حتي لا يتوفر النصاب المطلوب لشرعية انعقاد الجلسة، وهو ثلثا الأعضاء.
٤ ـ كان مرشح حزب العدالة والتنمية لرئاسة الجمهورية، هو عبد الله جول، وزير الخارجية، وكان يمكن أن تتخلي زوجته عن غطاء الرأس، والذي لا ترتديه أغلبية التركيات. وحتي هي لم تبدأ في ارتدائه إلا منذ سنوات قليلة. ولكنها وزوجها ومعهما الحزب اعتبروا الأمر قضية مبدأ، وهي حرية المواطن أو المواطنة التركية في اختيار الزي الذي يريده ما دام ليس هناك قانون يمنع أو يفرض زياً بعينه «كقانون الشرطة أو القوات المسلحة، مثلاً». أما وجهة نظر الجيش والقوي العلمانية التركية فهي استنكاف أن ترتدي زوجة رئيس الجمهورية زياً إسلامياً محافظاً،
يعتبرونه "متخلفاً"، ويمثل خروجاً علي الإصلاحات الحداثية للأب الرمزي لتركيا «أتاتورك»، وهو مصطفي كمال، الذي قاد ثورة علي سلاطين آل عثمان، وألغي نظام الأزياء العثمانية، بما فيها الطربوش واستبدلها بأزياء غربية، بما فيها القبعة. وتنص المادة ٥٨ من قانون الجيش التركي علي أنه حامي حمي النظام الجمهوري والعلمانية في تركيا.
٥ ـ يشعر الجيش التركي بالإحباط لعدم صدور أوامر من الحكومة له بالتحرك لقمع حزب العمال الكردي، جنوب شرق تركيا، في الشريط المحاذي لشمال العراق، وحيث يري حزب العدالة والتنمية، أن الأفضل هو التوصل إلي حلول سياسية بالتفاوض مع الجيران «العراق وسوريا وإيران» وحيث يوجد أكراد علي جانبي الحدود. وهو اتجاه يؤيده الاتحاد الأوروبي، التي ترغب تركيا بالانضمام إليه، ويعتقد أردوغان أن إطلاق يد الجيش التركي في هذا الملف الكردي يمكن أن يؤدي إلي صراع مسلح ممتد،
لا نحُمد عقباه، فضلاً عن تبديد فرص تركيا في الانضمام إلي الاتحاد الأوروبي، والذي تبحث بعض دوله، وفي مقدمتها فرنسا عن أسباب للاعتراض علي انضمام تركيا. وكانت "المسألة الكردية" هي إحدي أهم المسائل التي احتدم الجدل حولها قبل وأثناء المعركة الانتخابية. وقد أراد أردوغان وحزبه حسم هذا الجدل بالحصول علي تفويض واضح من أغلبية الناخبين الأتراك في هذه المسألة وغيرها من مسائل خلافية، يعطي الجيش التركي نفسه حق الفيتو فيها.
٦ ـ يضاعف من إحباط المؤسسة العسكرية التركية، إلي جانب مسألة الحجاب في القصر الجمهوري والكوابح الحكومية في المسألة الكردية، أن أحد شروط قبول تركيا في الاتحاد الأوروبي هو السيطرة المدنية علي القوات المسلحة. وهذا يعني أن يكون وزير الدفاع «أو الحربية» مدنياً، وان يكون القائد الأعلي للقوات المسلحة مدنياً منتخباً ديمقراطياً، أي رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء. وكما هو الحال في معظم بلدان العالم الثالث، يصعب علي العسكريين نفسياً واجتماعياً، أن يتلقوا أوامر من قيادة مدنية، حيث تعودوا هم أن يعطوا الأوامر للآخرين!
في كل الأحوال، شعر الجميع هنا في تركيا، من سائق التاكسي بالمطار، إلي العاملين في الفندق، إلي المثقفين ورجال الأعمال، أن انتخابات الأحد ٢٢ يوليو ٢٠٠٧، ستحسم كثيراً من المسائل الحيوية المعلقة في حياتهم، ولو إلي حين. لذلك عاد المصطافون خارج تركيا من مدنها الشاطئية إلي مقار دوائرهم الانتخابية، واستيقظ الجميع مبكرين،
كما لو كان يوم عيد، واصطفوا أمام المدارس، حيث توجد، كما هو الحال عندنا، مراكز الاقتراع. ولم ألمس أنا في خمسة من مقار الاقتراع التي طُفت عليها بالتاكسي مع مرافق تركي، أي مشكلات أو حتي مظاهر توتر أو صياح أو هتاف، ولم أر أي لافتات انتخابية، حيث تم منع وإزالة أي دعايات قبل الانتخابات بأربع وعشرين ساعة. وقد ذكر مراقبون آخرون ممن راقبوا في مدن أخري، ورأيتهم في الفندق مساء يوم الانتخابات وفي اليوم التالي، نفس الشيء: الهدوء والنظام، ومظاهر الفرح والبهجة من الأطفال خارج مراكز الاقتراع.
كما كان إقبال النساء والشباب ملحوظاً. وضمن ما رأيته من مشاهد مؤثرة، أحد المواطنين يحجل علي عكازين، وإحدي ساقيه في الجبس، وهو يسعي إلي مركز للاقتراع في حي السلطان أحمد، قرب مسجد أيا صوفيا،
وآخر عجوز في كرسي متحرك تدفعه ابنته، أو ربما حفيدته إلي مركز آخر، قرب المسجد الأزرق. وسهر الأتراك إلي الحادية عشرة مساء، إلي أن أعلنت آخر النتائج، واستمعوا إلي خطاب قصير من رجب طيب أردوغان، الذي فاز حزبه بأكثرية مقاعد البرلمان الجديد، بنسبة ٤٧% من جملة من أدلوا بأصواتهم.
وفي كلمته، شكر أردوغان من منحوه ومن لم يمنحوه أصواتهم، وذكر أن الأتراك كانوا تحت أنظار العالم بأسره في ذلك اليوم، وقد شرّفوا تركيا، وبهروا العالم بسلوكهم الحضاري المسؤول،
وبإقبالهم غير المسبوق علي التصويت، بنسبة ٨٢%، والذي هو أعلي من المعدلات المقارنة في بلدان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. كما أكد التزامه بأن يكون رئيس وزراء لكل الأتراك، بأن يلتزم حزبه «العدالة والتنمية»، AKP بحماية الجمهورية واحترام علمانية تركيا، والاستمرار في تنمية تركيا بنفس المعدلات التي تحققت في السنوات الخمس الأخيرة «٦% سنوياً» أو أعلي، والمثابرة في طلب عضوية الاتحاد الأوروبي.
تكررت عبارة «الاكتساح»، landslide في وصف نتيجة الانتخابات، رغم أن حزب العدالة والتنمية لم يحصل إلا علي ٤٧% من جملة الأصوات، أي أقل من الأغلبية، التي هي أكثر من ٥٠%. وجاءت الإجابة خلال محاورات المائدة المستديرة في اليوم التالي، وهي:
١ ـ أن كثرة عدد الأحزاب في تركيا تؤدي إلي تفتيت الأصوات، ولم يحصل أي حزب في أي انتخابات سابقة علي ٥٠% منذ عام ١٩٥٠ والمرة الوحيدة التي تحقق فيها ذلك كانت في أول انتخابات بعد الأخذ بنظام التعددية الحزبية عام ١٩٤٦، وبهذا المعني فإن ما حصل عليه حزب العدالة والتنمية «٤٧%» هو الأقرب إلي ٥٠% خلال النصف قرن الأخير.
٢ ـ أن هذه هي المرة الأولي في تاريخ الديمقراطية التعددية التركية التي يفوز فيها نفس الحزب مرتين متتاليتين.
٣ ـ أن الحزب لم يفز فقط للمرة الثانية علي التوالي، ولكنه أيضاً رفع هامش فوزه، أكثر من عشر نقاط مئوية، من ٣٤ إلي ٤٧%. هذا رغم المظاهرات المضادة التي كانت قد نظمتها الأحزاب القومية العلمانية في كبريات المدن التركية، ضد حزب العدالة والتنمية، تعبيراً عن الخوف علي جمهورية «تركيا العلمانية» من زحف إسلامي.
رغم أن أعضاء المائدة المستديرة من الأتراك لم يكونوا من أنصار حزب العدالة والتنمية، فإنهم جميعاً عبّروا عن إعجابهم الشديد بزعيم الحزب، والطريقة التي أدار بها الأزمات والاستفزازات التي اختلقها الجيش والعلمانيون المتشددون، كذلك أشادوا بمهارته في كسب رجال الأعمال، وعدم التعرض للحريات الشخصية وأسلوب حياة المواطنين الأتراك.
وإلي أن تتاح فرصة تلخيص وجهة النظر المصرية والعربية التي شاركت بها في المائدة المستديرة، أقول هنيئاً للأتراك بآخر أعراسهم الديمقراطية، وعقبال المصريين والعرب، آمين.
No comments:
Post a Comment