مصر في ظل الوطني ومبارك: بلد من الأسرار بقلم ضياء رشوان ٦/٨/٢٠٠٧
يوماً بعد آخر يتأكد المرء من أن مصر تعرف واحداً من أعجب وأغرب النظم السياسية علي مستوي العالم كله، لم يرد له مثيل أو حتي شبيه في أي تصنيف للعلوم السياسية المتخصصة في هذا المجال.
ومصادر العجب والغرابة ومظاهرهما في أداء النظام المصري ليست فقط في طبيعته الاستبعادية المتزايدة لأي مشاركة حقيقية عن طريق الإجراءات أو التشريعات، ولا في تمحوره حول الفرد - الرئيس الذي يملك كل شيء ويحكم في كل شيء، ولا في قيامه واستمراره علي تحالف متين من الفساد والاستبداد لا يلقي بالاً إلي مصالح ورغبات عموم المصريين ويواصل تدمير حياتهم وما بقي من مستقبلهم، بل هي أيضاً في الطريقة السرية التي يدير بها الشؤون والسياسات العامة في البلاد.
ففي ظل هذا النظام الذي تتابعت حكوماته وقيادات حزبه من مختلف الأجيال والأسماء، أصبحت مصر بلداً من الأسرار التي لا يستطيع أحد من المصريين - مهما بلغ علمه واطلاعه - أن يطلع عليها أو يعرف ولو جزءاً صغيراً منها، بالرغم من أنها جميعاً تمس حياة ومصالح ومستقبل كل المصريين في جميع المجالات، التي يمكن تخيلها.
وحتي لا يصبح الحديث محض خيال أو قول مرسل، تعالوا نحصي معاً عدد ونوعية القضايا - الأسرار المثارة في الأسبوعين الماضيين وحدهما، والتي لا يعرف أحد من عموم المصريين أو نخبتهم ما هو القرار النهائي الذي ينتويه النظام بشأنها. فعلي الصعيد الاقتصادي، تأتي قضية بيع بنك القاهرة لمستثمر أجنبي رئيسي بنسبة ٨٠%، والتي طرحت إجراءاتها فجأة وبعد شهور بل وسنوات طويلة من النفي الحكومي والحزبي الرسمي لأي نية لهذا البيع، لتدفع للتساؤل عن الطريقة السرية التي تدار بها أخطر ملفات الاقتصاد المصري من جانب الحزب الوطني وحكومته.
وفي التوقيت نفسه تقريباً ثارت عاصفة التغيير الوزاري المحتمل بعد أن صرح الرئيس مبارك بأنه غير مستبعد، لتدخل البلاد بنخبتها ووسائل إعلامها ومنتدياتها السياسية في جولات متتابعة من التكهنات والتخمينات حول حدود هذا التغيير ومن سيشملهم دون أن تتوافر معلومة واحدة أولية مؤكدة حول حقيقة هذا التغيير وموعده وحدوده.
ولعله ليس هناك من داع، بعد كل ما كتب وقيل في وسائل الإعلام المصرية، للتفصيل في مخاطر مثل تلك الأجواء السرية الغامضة والمربكة علي أداء الحكومة الحالية وأجهزتها وتأثيرها شديد السلبية علي مصالح المصريين وقضاياهم الحيوية، وهو إرباك مفهوم، في ظل أن أحداً من أعضاء هذه الحكومة وفي مقدمتهم رئيسها لا يعرف إذا ما كان هناك تغيير وزاري أم لا ولا إذا ما كان هو من المطروحين للخروج من الحكومة أو البقاء فيها.
وفي نفس الوقت الذي تُغير فيه - أو لا تُغير - حكومة البلاد بصورة سرية تغيب عمن تحكمهم تلك الحكومة، يفاجئنا أمين عام الحزب الوطني ورئيسه بعد ذلك باتخاذ قرار باختيار كافة مستويات الحزب الداخلية بالانتخاب، وصولاً إلي رئيس الحزب وأمانته العامة ومكتبه السياسي. ولا شك أن اللجوء لمبدأ الانتخاب في حد ذاته يعد توجهاً إيجابياً،
إلا أنه عندما يتعلق باختيار قيادات عليا للحزب الذي يهيمن علي حكم مصر منذ عام ١٩٧٨ يصبح أمراً عاماً يهم كافة المصريين وليس أعضاء هذا الحزب وحدهم، الأمر الذي كان - ولا يزال - يستلزم عدم إخفاء ما يدور من ترتيبات أو تدابير سرية لاختيار هؤلاء القادة الجدد عنهم، إلا أن الطبع يغلب التطبع فتحول الأمر برمته إلي سر آخر من الأسرار التي لا يجب علي عامة المصريين أو حتي نخبتهم معرفتها.
وعندما نذهب إلي المجال التشريعي نكتشف أنه يشهد استعدادات محكمة السرية من جانب قطاعات ضئيلة في الحزب والدولة لإصدار ثلاثة قوانين علي الأقل تمس حياة ومصالح ومستقبل كل المصريين بلا استثناء، دون أن يعرف أحد منهم ما يجري إعداده في الكواليس المظلمة.
فهناك أولاً قانون مكافحة الإرهاب الذي يجري العمل فيه منذ أكثر من عام دون أن يعرف أحد من المصريين الذين تزعم الحكومة وحزبها أنه سيصدر من أجل حمايتهم أي شيء عن نصوصه أو اتجاهاته.
وهناك ثانياً قانون المجالس المحلية وموعد انتخاباتها القادمة والتي يشاع أنها ستؤجل مرة أخري لما بعد عام ٢٠٠٨، والذي هو أيضاً من الأسرار العليا التي تضن بها قيادة الحزب والحكومة علي كل المصريين بالرغم من أنه يمس كل تفاصيل حياتهم اليومية عبر تلك المجالس.
وهناك ثالثاً قانون مجلسي الشعب الشوري، واللذين سيحددان شكل النظام الانتخابي الذي سيختار المصريون عبره أعضاء مجلسي البرلمان الذي سيشرع لهم قوانينهم ويراقب الوزارات التي تحكمهم، فلاشيء يعرفه أحد في البلاد، بمن فيهم نواب الحزب الحاكم أنفسهم، عن هذا النظام الانتخابي الذي تحتفظ به فئة قليلة بداخل النظام السياسي لنفسها وحدها كأنه أحد الأسرار العسكرية التي لا يجوز اطلاع العامة عليها.
خلاصة الأمر أن الحزب الوطني بعد نحو ثلاثين عاماً من هيمنته الشاملة علي مصر وأكثر من ربع قرن من حكم الرئيس مبارك لها قد نجح في ابتداع نظام سياسي جديد لم يرد له ذكر في مصنفات العلوم السياسية ولم يتكرر له مثيل في الواقع العملي الدولي، وبمقتضاه أصبحت مصر فعلاً بلدًا من الأسرار.
No comments:
Post a Comment