: مشكلة قانونية أم سياسية؟ بقلم د.عمرو الشوبكى ٣٠/٨/٢٠٠٧
تزايد الجدل مؤخرا حول مسألة تأسيس حزب سياسي مدني يحمل مرجعية إسلامية، وتصاعدت نبرة الحيرة والقلق من قبل قطاع يعتد به من المثقفين والسياسيين، يعززها حملات تشكيك وهجوم حكومية، وتردد بعض قادة هذه الأحزاب عن حسم مجموعة من القضايا التي من شأنها أن ترفع كل لبس عن الطبيعة المدنية لهذه الأحزاب.
ومنذ رحلة الوسط المتعثرة عام ١٩٩٥ لتأسيس حزب مدني ذي مرجعية إسلامية، والحديث عن هذه النوعية من الأحزاب لا يتوقف، فهناك بعض الاجتهادات الإخوانية لتأسيس حزب مدني ذي مرجعية إسلامية، وهناك «المحاولات الجهادية» لكل من حزب الشريعة والإصلاح، الذي عاد الأول وكرر محاولة الحصول علي رخصة رغم ما في برنامجه من ثغرات، وجاءت أخيرا محاولة حزب الاتحاد من أجل الحرية، لتمثل أخيرا وليس آخرا رقما جديدا في طابور الأحزاب المدنية المرفوضة من قبل الحكم تحت حجة مرجعيتها الإسلامية.
والمؤكد أنه لن يرخص لأي من هذه الأحزاب في هذا العهد، ولن ينتقل ملف الحركات الإسلامية بكل تنوعاتها المعتدلة والمتشددة، المستنيرة والمحافظة، إلي مكان آخر غير الأجهزة الأمنية، خاصة بعد أن وضعت المادة الخامسة من الدستور قيدا علي تأسيس أحزاب علي أساس مرجعية دينية، في تناقض مع المادة الثانية التي تنص علي أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع.
والسؤال المطروح لماذا الإصرار الحكومي علي رفض هذه الأحزاب بصورة قاطعة، وما هي دلالات تعددها وانتشارها؟.
المؤكد أن الرفض الحكومي لهذه الأحزاب لا يرجع إلي حرصها علي مدنية الدولة أمام ما تراه خطرا دينيا عليها من هذه الأحزاب، إنما هو في الحقيقة يرجع إلي أسباب سياسية تتعلق بعجز الحزب الحاكم عن الدخول في منافسة مع هذه الأحزاب أو غيرها من الأحزاب الجادة، لكونها أحزاباً لديها جمهور وكوادر حقيقية، وليس لكونها إسلامية، وهذا في الحقيقة أمر من الوارد تكراره مع أي حزب آخر إذا امتلك قدرات سياسية سواء كان ليبراليا أو يساريا، وربما تكون تجربة أيمن نور ذات دلالة في هذا الإطار والذي استبعد بقسوة من الساحة السياسية لأنه تجرأ علي منافسة الرئيس في الانتخابات، ومثل تهديدا حقيقيا لمشروع التوريث، رغم خلفيته السياسية الليبرالية.
والمؤكد أنه لا يوجد معيار سياسي وقانوني يعتمده النظام للحفاظ علي مدنية الدولة والنظام الجمهوري، بل إنه مسؤول عن الترويج لثقافة تغيب العقل وتروج في أحيان كثيرة لطائفية بغيضة، وتقتل روح المبادرة والعمل الجاد، بل إنه تعامل مع مخاطر حقيقية تهدد كيان الدولة وسلامتها وحقوق وكرامة موطنيها بتبلد نادر وغير مسبوق، وصار كل شيء مسموحاً به في مصر إلا المنافسة علي السلطة بدءا من التدخلات الخارجية في كل التفاصيل اليومية التي تتعلق بالدولة، وانتهاء بفرض توجهات سياسية بعينها، ويكشر الحكم عن أنيابه فقط، حين يعترض الخارج علي اعتقال معارض سياسي، أو تعذيب مواطنين، وتخرج في هذه الحالة فقط شعارات السيادة الوطنية ورفض التدخل في الشؤون الداخلية.
ومن هنا سيندهش المرء لتلك المساحة الهائلة التي حصل عليها رجال الدين الرسميون في الإعلام الحكومي، وهذا الصعود الهائل لهذا النمط الجديد من التدين الشكلي الذي قاده «الدعاة الجدد» وأفتي كثير منهم في كل صغيرة وكبيرة تخص حياة المواطنين البسطاء، حتي بدا التنفس وكأنه مطروح للفتوي إذا ما كان حلالا أم حراما، وصارت البرامج الدينية الساذجة بجوار أحاديث «الكباتن» في كرة القدم لهما تقريبا نفس الجمهور الذي يتنقل معهما بين كل قناة للتلفيزيون المصري.
والمدهش أن بعض هذه الأحاديث التي ركزت علي إصلاح السلوك الفردي تبخرت أمام وطأة الواقع السياسي المعاش وزاد حديث الدعاة الجدد عن الأخلاق في الوقت الذي انهارت في الواقع العملي، لأن إصلاح الشعوب لم يكن في أي يوم قضية أخلاقية تخص الدعاة، إنما هو تغيير في الواقع السياسي الاجتماعي والثقافي المحيط، يقوم به سياسيون بالأساس.
واختارت الحكومة دعم النمط الأول من التدين مهما كانت سطحيته وجهله لأنه بعيد عن المجال السياسي، في الوقت الذي قاومت فيه بشدة أي مشروع سياسي للتيارات الإسلامية، رغم أنها في معظمها أكثر استنارة من كل رجال الدين الرسميين الذين تركتهم الحكومة يعبثون في عقول الشعب المصري لثلاثة عقود كاملة.
أما بالنسبة لدلالة التعدد الذي تشهده هذه الأحزاب المدنية ذات المرجعية الإسلامية، فيتمثل في أن التعبير السياسي عن أي فكرة دينية أو عقائدية، سياسية أو اجتماعية، بصورة تنقلها من مصاف الفكرة النقية أو المقدسة، إلي الممارسة العملية النسبية التي تغيب عنها أي قداسة، ويكون لميول الأفراد والتجمعات دور حاسم في صياغة أفكارها وبرامجها، وتلعب خبراتهم السياسية والاجتماعية والواقع المحيط بهم دوراً حاسماً في صياغة أفكار كل حزب حتي لو قالوا جميعا إنها تستند إلي «مرجعية إسلامية».
التحدي أمام قبول هذه الأحزاب في الحياة السياسية قانوني أم سياسي؟ في الحقيقة إنه بالأساس سياسي لأن الجانب القانوني ــ وليس سياسة التفتيش في النوايا ــ يتطلب أن تقدم هذه الأحزاب برامج سياسية تعلن فيها احترامها للدستور والقانون والتزامها بالدولة المدنية وبالنظام الجمهوري وبالمواطنة، وهو ما أعلنه بشكل واضح برنامجان من هذه الأحزاب، هما برنامج حزب الوسط، وبرنامج «حزب» الإخوان، وأعلن حزب «الاتحاد من أجل الحرية» التزامه بهذه المبادئ، وبدا برنامج حزبي الشرعية والإصلاح في حاجة إلي مراجعة ليصبحا مقبولين من الناحية الدستورية والقانونية.
ولكن يبقي التحدي الحقيقي في دمج هذه التيارات سياسياً، يتطلب من الأساس نظاما حريصاً علي دولته المدنية ومؤسسات نظامه الجمهوري، التي ستصبح جميعها ضمانة كبري أمام عدم انحراف هذه الأحزاب عن الديمقراطية، وستنظم هذه المؤسسات القوية ساحة الممارسة السياسية والديمقراطية، التي ستمثل الطريق الوحيد أمام تطور وانفتاح هذه الأحزاب علي حقيقة «كوارث» الداخل وتحديات الخارج، وهذا من غير المنتظر حدوثه في ظل العهد الحالي لنبقي كما نحن بعيدين عن إصلاح في السياسة ونهضة في الاقتصاد.
No comments:
Post a Comment