بقلم: فهمـي هـويـــدي ..... أهرام ثلاثاء 24/4/2007
لست مقتنعا بفكرة حجب الرقم الذي يمثله الأقباط في تعداد سكان مصر, واستغربت كثيرا الحجة التي أوردها رئيس جهاز التعبئة والاحصاء في تبرير هذا الموقف.(1) في الحوار الذي أجرته صحيفة' الدستور' مع اللواء ابو بكر الجندي رئيس الجهاز تحدث الرجل في مواضيع شتي كان من اهمها عدم الاشارة إلي عدد الاقباط المصريين في نتائج التعداد. وحين سئل عن السبب في ذلك قال ما معناه إن الاجواء الراهنة مشبعة بالحساسية والتوجس لذلك فإن خانة الديانة كانت اختيارية في استمارات التعداد. وبسبب تلك الاجواء فإن الجهاز حريص علي عدم إغضاب الاقباط اذا لم يعجبهم الرقم واعتبروه اقل مما يتصورون, كما أنه حريص علي عدم اغضاب المسلمين اذا وجدوا أن الرقم اعلا مما يتوقعون. لذلك وتجنبا لوجع الدماغ فقد صار حجب الرقم هو الخيار الافضل.اذا صح هذا الكلام فأزعم أن التفسير الذي قدمه رئيس الجهاز يحتاج إلي تصويب يتحري وضوحا وصراحة اكثر. ذلك أنه لم يحدث ولم نسمع أن المسلمين أعربوا عن استيائهم أو قلقهم من كون الاقباط خمسة ملايين أو عشرة. لكن ما يعرفه الجميع أن بعض متعصبي القبط في داخل مصر وخارجها دأبوا علي اثارة اللغط والاحتجاج بسبب نتائج تعداد السكان, مدعين في ذلك أن السلطات المصرية تتعمد تقليل اعدادهم ومصرين علي أن الرقم الحقيقي يتجاوز الارقام الرسمية المعلنة. لذلك فالحقيقة أن حجب عدد الاقباط في التعداد الاخير والذي سبقه اريد به مجاملتهم وتهدئة خواطرهم وتفويت الفرصة علي المجموعات المتعصبة حتي لا تعود الي اثارة الضجة حول الموضوع مرة اخري.في هذا الصدد فإنني أسجل ثلاث ملاحظات الأولي أنه من حيث المبدأ فإن مجاملة الاقباط ليست أمرا مستهجنا ولكنها تظل أمرا مرغوبا اذا كان مما تقتضيه المودة ويتطلبه توثيق العري وتمتين الوشائج. من ثم فالسؤال او التحفظ لا ينصب علي مبدأ المجاملة وإنما علي مجالها وموضوعها. ولا أكاد اجد محلا للمجاملة أو مبررا لها فيما يخص عددهم ونسبتهم بين سكان مصر. فذلك أمر موصول بخريطة الوطن بأكثر من اتصاله بشأن الطائفة.الملاحظة الثانية لا تخلو من مفارقة لأننا بعدما تابعنا السجال الذي انتهي بالنص علي المواطنة في تعديل المادة الأولي في الدستـور في تكرار لمضمون المادة40 منه التي قررت المساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات بعد أن قطعنا ذلك الشوط, وجدنا أن جهاز التعبئة بحجبه لأعداد الاقباط عالج بعض نتائج التعداد علي اساس طائفي ولم يتعامل مع المعنيين بها بحسبانهم مواطنين مصريين عاديين.الملاحظة الثالثة لا تخلو بدورها من مفارقة لأن رئيس جهاز الاحصاء ذكر أن خانة الدين كانت اختيارية في استمارات التعداد, في حين أن الاستمارات ذاتها تضمنت خانة لتحديد عدد الاجهزة الكهربائية لدي كل اسرة( الثلاجة والغسالة وغيرهما), وهو ما يعني أنه صار بوسعنا أن نعرف من التعداد عدد الثلاجات أو الغسالات لدي المصريين في حين لا نتمكن من معرفة اعداد الاقباط المصريين!.(2) اذا اردنا أن نقطع شوطا أبعد في المصارحة وتأملنا مليا في مسألة حجب عدد الاقباط أو نسبتهم فسنجد أن هذا الموقف معيب من نواح عدة فهو يعني_ من ناحية_ أن اذاعة نتائج التعداد تخضع للحسابات والموازنات السياسية, الامر الذي ينال من صدقية التعداد ويفقد الثقة فيه. لأن الذي يحجب معلومة بأهمية عدد الاقباط في البلد لن يتردد في حجب أية معلومات أخري لأية اسباب سياسية أو اجتماعية تملي عليه أو يقتنع بوجاهتها.من ناحية ثانية فذلك يعني أن الجهات المسئولة لا تملك شجاعة اعلان الحقيقة في الموضوع, وتتحسب لردود الافعال في الداخل والخارج بأكثر من التزامها بمقتضيات الحقيقة, الأمر الذي يشجع الآخرين علي الضغط عليها ومحاولة ابتزازها.من ناحية ثالثة فإن هذا الموقف يمثل اهدارا لحق الرأي العام في المعرفة التي هي في هذه الحالة تتعلق بحقائق وتضاريس المجتمع الذي يعيشون في كنفه. وهو مسلك يعيد الي الأذهان موقف الوصاية الأبوي من جانب السلطة التي تعتبر أن احاطتها بالأمر فيها الكفاية. وأنه ما دامت الحكومة تعرف فإن' الراعي' سيقوم باللازم, وعلي الرعية إلا تشغل بالها بالموضوع وأن تنصرف إلي امورها الحياتية.من ناحية رابعة فإن كتمان الرقم يفتح الباب علي مصراعيه للمبالغة من جانب او للتهوين والتبخيس من جانب آخر. الأمر الذي يسهم في البلبلة واللغط باعتبار أن غيبة اعلان الحقيقة توفر مناخا مواتيا للترويج للمبالغات وكل صنوف الشائعات.من ناحية خامسة فإن هذا الموقف يعطي للمواطن المصري انطباعا مؤداه أنه محكوم عليه أن يتعامل مع ملفات الوطن الذي يعيش فيه بحسبانها اسرارا لا يجوز له أن يطلع عليها, مما يوسع من نطاق الالغاز التي تحيطه. فلا تغدو مقصورة علي المجال السياسي وإنما تتجاوز ذلك الي ما هو اجتماعي وثقافي.(3)حين اعلنت نتائج الاحصاء السكاني لعام1976 التي تبين منها أن عدد الاقباط في مصر لا يجاوز2 مليون و300 الف نسمة( بنسبة6.24%) احتج بعض المتعصبين في داخل مصر وخارجها( في الولايات المتحدة خاصة) وأثير الموضوع في مجلس الشعب. وأسفر الأمر عن تشكيل لجنة لتقصي حقائق الموضوع برئاسة وكيل المجلس السيد محمد رشوان ضمت اثنين من المسلمين واثنين من الاقباط وتلقت اللجنة مذكرة بهذا الخصوص من اللواء جمال عسكر رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء وقتذاك. وقد استعرض مضمون تلك المذكرة المستشار طارق البشري في كتابه المهم الذي صدر عن دار الهلال سنة2005 تحت عنوان' الجماعة الوطنية- العزلة والاندماج'.حتي يزيل الشكوك المثارة فإن اللواء عسكر قدم للجنة تقصي الحقائق بيانا بالموظفين والمسئولين الاقباط الذين اشتركوا في كل مراحل التعداد من التحضير إلي التنفيذ والمراجعة ثم وضع امام اعضائها الحقائق التالية:أن جميع التعدادات التي اجريت منذ الاحصاء الأول في سنة1897 وحتي سنة1947( معروف أن التعداد يتم كل عشر سنوات) أشرف عليها خبراء انجليز وفرنسيون. فمدير الإحصاء في عام1907 كان فرنسيا, ومدير الاحصاء في1917 كان انجليزيا.( اسمه مستر كريج)_ وهو الذي اشرف علي تعدادي1927 و1937. ورئيس الاحصاء آنذاك كان حنين بك حنين وهو قبطي مصري, واهمية هذه الخلفية تكمن في انها تستبعد تماما شبهة التلاعب في النتائج التي حددت نسب المسلمين والمسيحيين في مصر. وهي النسب التي ظلت مستقرة وشبه ثابتة طوال الأعوام الثمانين السابقة( لا تنس أن لجنة تقصي الحقائق التي بحثت الموضوع تشكلت في سنة1980).إن نسبة الاقباط في التعداد الأول كانت6.3% والثاني( في1907) كانت6.4% غير أن هذه النسبة ارتفعت ابتداء من تعداد1917 حيث وصلت الي8.1% وظل الوضع مستقرا في تعداد1937 الذي قدرت فيه نسبتهم بـ8.2% لكنها تراجعت قليلا في تعداد عام47 فوصلت إلي7.9%. هذه الزيادة التي طرأت علي نسبة المسيحيين ابتداء من عام1917 لم يكن سببها ارتفاعا مفاجئا في اعداد الاقباط المصريين وانما كانت نتيجة لإدخال افراد جيش الاحتلال البريطاني وعائلاتهم في التعداد إلي جانب آخرين من الاجانب الأرمن واليونانيين الذين تمصروا بعد إلغاء الحماية علي مصر و إلغاء المحاكم المختلطة في عام,1922 وفضلا عن هؤلاء وهؤلاء فإن ظروف الحرب العالمية الاولي(1914 ـ1919) دفعت اعداد من الاجانب الي الهجرة إلي مصر الامر الذي كان له دوره في زيادة نسبة المسيحيين.بسبب العدوان الثلاثي علي مصر عام56 تعذر اجراء التعداد في موعده المقرر لكنه أجري في سنة60 وتبين منه أن نسبة المسيحيين بدأت في التراجع التدريجي حتي وصلت إلي7.3%. وكان ذلك أمرا طبيعيا بعد رحيل القوات البريطانية ونزوح اعداد من الاجانب والمتمصرين بعد ثورة52 وعقب العدوان الثلاثي في عام56.في التعداد التجريبي الذي أجري عام66 هبطت نسبة المسيحيين إلي6.7% وهي النسبة التي تأثرت باستمرار نزوح الاجانب خصوصا بعد التأميمات التي تمت في سنة1961. واحدثت الهجرة المسيحية شبه المنظمة بعد حرب67 للاستيطان في الولايات المتحدة وكندا الي تراجع آخر في اعداد المسيحيين حتي وصلت نسبتهم في تعداد عام76 إلي6.24% وهي النسبة التي استقرت منذ ذلك الحين واثارت احتجاج بعض المتعصبين كما سبق وبينا.في تعداد عام86 وصلت نسبة المسيحيين إلي5.87% وقدر عددهم في احصاء ذلك العام بمليونين و830 الف نسمة. وفي احصاء96 الذي حجبت فيه اعداد الاقباط لأول مرة ظلت النسبة تدور حول6% طبقا للتسريبات التي خرجت وقتذاك. أما احصاء2006 الذي نحن بصدده فلم تعرف نتائجه فيما يخص الاقباط وإن كان الخبراء يرون أن نسبتهم لم تتغير كثيرا وأنها ستظل تدور حول نسبة6% صعودا أو هبوطا حيث يقدر الخبراء أن الاقباط يزيدون بمعدل50 الف نسمة سنويا.(4)بقيت عندي كلمتان: الأولي أن حق الكرامة للمواطنين يرتبط بصفتهم تلك ولا علاقة له باعدادهم أو اوزانهم فضلا عن معتقداتهم هو حق انساني في الاساس_( هل يحتمل منا البعض أن نقول إنه حق شرعي ايضا تقرره الآية ولقد كرمنا بني آدم..) فما هو مكفول للمائه أو للمليون شخص لن يتضاعف اذا كان العدد خمسة ملايين أو عشرة وانما لهؤلاء ما أولئك من الحقوق والضمانات.الكلمة الثانية أن مظلة الوطن حين تضيق عن استيعاب مختلف اطياف الجماعة الوطنية, فإن ذلك يفتح الباب واسعا للإفلات منها والاحتماء بمظلة الطائفة أو القبيلة أو الجماعة أو غير ذلك من التكوينات الفئوية. والوعي بهذه الحقيقة ينبهنا إلي اهمية تصويب المسار بحيث تتضافر جهود المخلصين من أجل السعي لتوسيع مظلة الوطن لتحقق دورها في الاستيعاب وتكريس تماسك الجماعة الوطنية. وذلك لا يتأتي إلا من خلال الإلحاح علي اطلاق الحريات العامـة والتشبث باقامة مؤسسات ديمقراطية حقيقية توفر للجميع بلا استثناء حقوق المشاركة والمساءلة وتداول السلطة.حيث ازعم أن ذلك وحده يمثل طوق النجاة الذي ينبغي أن نتعلق به ليس فقط لضمان استمرار تماسك الجماعة الوطنية وقطع الطريق علي محاولات العبث بمفاصلها, ولكن ايضا لضمان حقوق المواطنة لكل مكونات تلك الجماعة حتي لا تضطر أي منها إلي محاولة الالتفاف أو الاستقواء بأحد لتحصيل تلك الحقوق.