صلاح الدين حافـظ ـ عن المصريين 19/7
طغت السياسة بمعناها الرسمي على الصحافة، واحتكر السياسيون مقاعد الصحفيين ، ففشلت السياسة في تلميع وجهها، وفشلت الصحافة في أداء رسالتها، وكانت الضحية هي الحرية، التي بسبب نقصها أو غيابها، تراجع الاثنان ... السياسة والصحافة على نحو ما نرى ونعرف، في ظل حالة ملتبسة تبدو شديدة الخطورة، تترجم فكرة السلطة المطلقة ...وعبر تطور الأحداث والعصور، لتنتقل التحكم في السياسة، والانفراد المتتالي بالسلطة ونفي الآخر، أو على الأقل إضعافه واستنزاف قواه، لننقل إلى الصحافة بصورة كربونية، وعايشنا على سبيل المثال انفراد حزب أو زعيم بالسلطة مما أنتج تجمد مسئولين وسياسيين ووزراء في مقاعدهم عشرات السنين !وبالمقابل عايشنا صحفيين كبارا ورؤساء تحرير ، تكلسوا في مناصبهم نفس عدد السنين ، دون تغيير أو تطوير بنفس نهج السياسيين والوزراء، فمن أين إذن يأتي الابتكار وكيف يتحقق التطوير، بل كيف لا يتحقق النجاح لتحالف الفساد والاستبداد الهاجم على الجميع !ولقد لعبت فكرة القائد الملهم والزعيم الأوحد، صانع السياسة وصاحب القرار وحده، وهي فكرة استبدادية شيطانية، دورها في تحقيق نظرية الإفساد المتبادل بين السياسة والصحافة، وأطبقت هذه النظرية بالتالي على كل مؤسسات الدولة والمجتمع، في غياب الحرية والنظم الديموقراطية السليمة، التي تشارك وتحاسب وتعاقب، وتعوق الانفراد بسلطة القرار السياسي، والانفراد بصياغة الرأي العام وتوجيهه بواسطة الصحف ووسائل الإعلام الخاضعة للهيمنة الحكومية ..وكان من نتائج هذه الحالة المعادية للديموقراطية، المتمسكة بالاستبداد السياسي والصحفي، إفراغ الحياة السياسية من القوى والمنظمات والأحزاب القادرة على المنافسة من أفكارها وطموحها وكوادرها، وبالتالي انطبق الوضع على الصحافة، التي تم إفراغها عبر عقود من آرائها الحرة وسياساتها التحريرية المهنية والمستقلة وكوادرها الموهوبة والمدربة ... وأصبح الميدان فسيحاً لا رقابة عليه أمام المتحكم الأوحد والشلة الواحدة ..وبقدر الإفقار المنظم للحياة السياسية وإفراغها من أجيال جديدة وشابة، بقدر ما تم نفس الإفقار المنظم للصحافة والإعلام، وحرمان أجيال متعددة من فرصتها في العمل والإبداع والترقي، فإذا بنا نوضع دائما أمام "الخواء" في ظل احتكار المناصب والمواقع لصالح أفراد معدودين، انتهت مدة صلاحيتهم، وتشعبت مصالحهم وأطماعهم، وإذا بنا نفاجئ في كل وقت بسؤال مستفز يقول، ومن البديل .. هل هناك بديل !!والسؤال مستفز، فضلا عن أوصاف أخرى أشد قسوة، لأنه يعني أننا يجب أن نقبل بالوضع القائم في السياسة كما في الصحافة، وأن نقبل بنظرية "الرجل الضرورة" الذي لا يمكن الاستغناء عنه، لأنه ليس له بديل، وهي نظرية نزلت من أعلى إلى أسفل، فسادت مجتمعاً عريقاً كبيراً ضخم السكان "75 مليونا" مثل مصر، 65 في المائة منه تحت سن الثلاثين، ويرسل صباح كل يوم 19 مليون طالباً إلى المدارس، ويبني باستمرار أجيالا شابة متعلمة ومؤهلة لشغل كل المناصب، إن أخذت فرصتها !
■ ■ ■والحقيقة أن طغيان السياسة على الصحافة بهذا الشكل ، الذي أدى إلى تطويعها و تدجينها، ليس قاصراً على مصر دون غيرها من الدول الفقيرة والمتخلفة وغير الديموقراطية، لكنه نموذج شائع، كما أن هذا الطغيان ليس وليد هذا العصر، ولكنه كان قائما حتى فيما يسمى المرحلة الليبرالية المصرية الشهيرة، فيما بين 1920 و1952، إلا أنه للأمانة تزايد فيما بعد، وصولا لحالة الالتباس والتشابك الراهنة بين السياسة الحكومية والصحافة والإعلام .فإذا كانت أحزاب المرحلة الليبرالية المشار إليها ، تصدر صحفها وتتحكم فيها، وتخضع توجهاتها التحريرية لسياساتها وأهدافها الحزبية، فإن تأميم " أو تنظيم" الثورة للصحافة عام 1960، قد أخضعها للتوجيه الحكومي وألحقها من الناحية النظرية على الأقل بالمنظومة السياسية الرسمية، وصارت الصحف تابعة للتنظيم الواحد، الحزب الواحد، الاتحاد القومي فالاتحاد الاشتراكي، فحزب مصر، فالحزب الوطني .وإذا كانت السنوات العشر الأخيرة، قد شهدت انفراجة ملحوظة في صدور صحف خاصة ومستقلة جديدة، كسرت جدار الاحتكار السياسي، الرسمي للصحافة "10 مؤسسات قومية كبرى"، تلازم معها إطلاق محطات إذاعة وتلفزيون خاصة، ناوشت الجهاز الإعلامي الرسمي الضخم ، فإن الحقيقة الراهنة تؤكد أن الدولة بكل ثقلها السياسي لازالت محتكرة للفضاء الاذاعى والتلفزيوني الأكثر تأثيراً وجاذبية ولا زالت مهيمنة على الصحف القومية التي تحتكر أكثر من 80 في المائة من سوق القراءة والتوزيع والطبع والإعلان ! وهى بهذا تؤكد مقولة أن الدولة تحتمي دائما بسلاحين نافذين هما الأمن من ناحية , والصحافة والإعلام من ناحية أخرى , لكنها تتجاهل في الوقت نفسه أن هذه الأوضاع الاحتكارية للسياسة والصحافة , قد أفرزت تجمدا في الأوضاع العامة , وأغلقت كل الطرق أمام مستقبل أجيال شابة , قادرة على التطوير والتغيير , وأطلقت العنان لحالة الإفساد المتبادل , فالسياسة وتدخل السياسيين , أفسد الصحافة ... والصحفيون المحتكرون للمناصب المقربون من السلطة , أفسدوا السياسة وأعاقوا الإصلاح الديموقراطي , بسيل النفاق و مدبجات الرياء , وتجاهل مصالح المجتمع ... ولذلك لم يكن غريبا أن يتجمد هؤلاء و أولئك في مناصبهم سنين عددا , وهم على ثقة كاملة بأن لا بديل لهم , وأن ضمان بقائهم يرتبط بمدى ولائهم لصاحب القرار وحده دون سواه , وانظر كيف جرى ويجرى الحال , في كل المناصب الوزارية والسياسية والصحفية والإعلامية ... الكل يتحرك وفقا للتوجيهات , ويكتب طبقا للتعليمات , إما حين تجئ لحظة التغيير , لسبب يحدده صاحب القرار , مثلما يحدد توقيت تنفيذه , فالظل الكئيب والتجاهل الكامل ينتظر صاحب الحظ السعيد , إما نقيضه صاحب الحظ السيئ , أو المغضوب عليه , فالهلاك مصيره , مع مزيد من التشنيع والتجريح والاتهام بالفساد والاستبداد !!ولم يكن غريبا أيضا أن يفقد المواطنون الثقة في مثل هذه القيادات الوزارية والسياسية وان يعبروا عن ذلك اصدق تعبير , على سبيل المثال , بعدم المشاركة في الانتخابات , وتدنى نسبة التصويت إلى ما اقل من 10 في المائة في معظم الحالات , وأن لا يسألوا لماذا ذهب هذا الوزير ولماذا فقد هذا النائب مكانه في قائمة الحزب الحاكم , لأنهم لم يعرفوا منذ البداية , لماذا جاء هذا, وعلى اى أساس أو كفاءة نجح ذاك ...ونفس المنطق ينطبق على قادة الصحافة ورؤساء التحرير المعينين أصحاب السلطة المطلقة , إذ لم يعد الرأي العام القارئ والمتابع, يهتم بمن جاء ومن ذهب , فالكل سواء , والقرار السياسي وليس المهنى هو المرجع النافذ , طالما أن الرأي العام ليس هو مصدر الشرعية والمصداقية , كما يحدث في صحف النظم الديموقراطية !
■ ■ ■ولم يكن الرأي العام وحده الذى فقد الثقة سواء في العملية السياسية , أو في الصحافة , بعد أن تبادلا الإفساد المنظم وغير المنظم , بل إن مسئولين كبارا طالما عبروا عن شئ من هذا القبيل , وانظر على سبيل المثال كيف يتعامل وزير ضليع في الحكومة مع الصحافة , لان مفهومه لرسالتها غائب , بل وهو ينظر إليها كما ينظر إلى شركة خاسرة أو مصنع يعانى من إضراب عمالة , إذن فالحل هو البيع ...على الجانب الآخر , انظر إلى مسئول آخر , كيف يغضب ويثور لان صحيفة انتقدت بعض سياساته و يتساءل , كيف تفعل ذلك , أليست هذا الصحافة تبعنا !!! وما بين سياسة البيع والتبعية , تتعمق أزمة الصحافة المصرية , ويزداد فقدانها للثقة والمصداقية ويتراجع قراؤها , وتحبط كوادرها , وتتدهور قيمها وتقاليدها المهنية , وتفقد حتى هامش الحرية المحدود الذى تتمتع به , لان الساسة والمسئولين الغاضبين منها وعليها يتحفزون للانقضاض على هذا الهامش , تقيدا وتكبيلا , ولان قادة الصحافة أنفسهم انصرفوا إلى اهتمامات ومصالح أخرى غير ترقية المهنة وحرية الصحافة ...وفى هذا المناخ الضبابي الذى طغت فيه السياسة والسلطة على الصحافة , وانجرفت فيه الصحافة في منحدر التبعية والانسياق والخضوع للسلطة , كان طبيعيا أن ينجح تحالف الفساد والاستبداد , في غزو الاثنين معا , السياسة والصحافة, وان يخلق حالة غريبة من عدم التوازن , بل من غياب الحرية بمفهومها الواضح , ناهيك عن المحاسبة والمساءلة والمراقبة ...وفى هذا المناخ الضبابي الملتبس كان طبيعيا أيضا , بعد أن اخترقت فيه السياسة والسلطة الصحافة حتى أفرغتها وأضعفتها وحولتها إلى مجرد بوق دعائي , أن تهجم الاختراقات الأجنبية لتقدم البديل المستورد, مسلحة بالتمويل المنساب وبالأفكار الجاذبة و التكنولوجيا الحديثة , لتصدر صحفا براقة وتطلق فضائيات جذابة ... تكتب وتنتقد وتتحدث وتتحاور حول أمورنا بحرية يفتقدها الرأي العام , في صحفه وإعلامه , فيهجرها دون أسف !لقد آن الأوان في ظل كل ذلك , أن نعيد تحديد العلاقة بين الصحافة والسلطة بعد كل ما جرى ويجرى ...
■ ■ ■■■خير الكلام : قرآن كريم : " والله لا يحب الفساد" ...
No comments:
Post a Comment