باستثناء إقامة جيش وطني قوي لم يتحقق لنا من ثورة يوليو شيء، وأعتقد أن العقل والواجب والمسؤولية تفرض كلها علينا مراجعة أسلوب احتفالنا وتقديسنا لثورة يوليو، فالغرق في التاريخ لا يصنع لنا المستقبل، كما لا يجب علينا أن نقلل من شأن من قاموا بالثورة في مرحلة تاريخية معينة ولأسباب تاريخية فرضتها الظروف التي كانت قائمة قبل ٥٥ عاما.
وقد كان أهم مبادئ الثورة هو أقلها حظا في الترتيب والتحقيق أيضا، فقد كان المبدأ السادس والأخير في قائمة المبادئ التي تأسست عليها الثورة هو إقامة ديمقراطية سليمة. ولأسباب تتعلق بوجهات نظر قادة الثورة، تقرر تأجيل تنفيذ هذا المبدأ، ولأسباب تتعلق بمن ورثوا حكم الثورة تقرر تجاهل هذا المبدأ من الأساس، فلا يمكن الزعم علي الإطلاق بأن في مصر حياة ديمقراطية سليمة الآن وبعد مرور ٥٥ عاما علي قيام ثورة يوليو، ومايسمح بتطبيقه من حريات في مصر يجعل الديمقراطية المصرية معيبة وناقصة وغير مكتملة النمو كما نصت مبادئ الثورة.
وواقع الأمر أن مصر الآن تخلو من الحياة الحزبية السليمة، وتفتقر أي انتخابات سياسية فيها إلي النزاهة، ويخلو نظامها السياسي من أي شبهة لتداول السلطة، ومجالسها النيابية تعمل بالأمر المباشر، وشعب مصر منزوع الإرادة في اختياراته السياسية. باختصار نحن نعيش في حياة سياسية كلها تمثيل في تمثيل، ولا يمكن إطلاقا أن يكون المبدأ السادس من مبادئ الثورة قد تحقق ولو بنسبة محدودة.
وإذا كان أول مبادئ الثورة هو القضاء علي الاستعمار وأعوانه من الخونة، فهو هدف رئيسي تحقق بطرد المستعمر الأجنبي الذي كان موجودا وقتها، ونالت مصر استقلالها، ولكن المتغيرات التي حدثت فيما بعدت فرضت أنواعا جديدة من الاستعمار الأجنبي، وهو استعمار غير منظور، ولكنه أشد أثرا علينا وهو استعمار اقتصادي، نبيع فيه مصانعنا وبنوكنا الوطنية لأجانب دون عائد ملموس علي المواطن المصري، وبعض هذه المصانع يمكن أن يطلق عليها صناعات استراتيجية، وبعضها من منجزات ثورة يوليو نفسها. ورغم أنني لست ضد الخصخصة كمبدأ، فإنني أرفض الهرولة في الخصخصة دون تمييز بين المشترين، ودون النظر في الاستفادة المتواصلة للمواطن المصري.
ورغم أن ثورة يوليو تأسست علي مبدأ القضاء علي الإقطاع، فإن الإقطاع الحالي ـ من وجهة نظري ـ أخطر علي مصر من إقطاع ماقبل الثورة، فالإقطاع الآن قائم علي الاحتكار، وبعض الإقطاعيين الجدد يستطيعون تسخير القرارات الحكومية لترسيخ احتكاراتهم لسلع إستراتيجية، ويتمتعون بحصانة الحكومة التي تظلهم بمظلة حماية واسعة وممتدة، وأصبح الإقطاعيون الجدد يتحكمون في الأسعار، ويمنعون آخرين من الشرفاء من المنافسة.
وأتوقف قليلا عند المبدأ الرابع للثورة، والخاص بإقامة عدالة اجتماعية، وأتساءل دائما عما تحقق من هذا الشعار، فهل انهيار الطبقة الوسطي في مصر عدالة اجتماعية؟ وهل احتكار ٥% من الشعب حوالي ٩٥% من الثروة المصرية عدالة اجتماعية؟ وهل الفقر المتزايد الذي يضرب غالبية شعب مصر عدالة اجتماعية؟ وهل حرق هؤلاء الفقراء بنار الأسعار عدالة اجتماعية؟ وهل تسريح العمالة من شركات الأعمال دون تعويض مناسب من أجل بيعها لمستثمرين أجانب عدالة اجتماعية؟ وهل انهيار خدمات الصحة والتعليم والإسكان عدالة اجتماعية؟ وهل افتقار قري الوجه البحري للمياه الصالحة للشرب بعد الثورة بنصف قرن عدالة اجتماعية؟ ماذا تبقي من ثورة يوليو حتي نقيم لها كل هذه الاحتفالات ونعتبرها العيد القومي لمصر؟ ولماذا يستمد النظام السياسي المصري شرعيته من ثورة يوليو طالما أن مبادئه لا علاقة لها بمبادئ الثورة؟
علينا أن نراجع أنفسنا، فهذه الثورة لم تكن مقدسة، هي فقط كانت مرحلة من تاريخ مصر، ولا يجب أن تكون المرحلة التي توقف عندها تاريخ مصر. وهذه الثورة التي كانت ضرورة في وقتها أصبحت الأجيال الجديدة تقرأ عنها في كتب التاريخ دون أن يشعروا بأنها قدمت لهم أي شيء، نحن في حاجة لثورة جديدة تقوم علي مبدأ واحد فقط سقط من حسابات قادة ثورة يوليو ومن جاءوا بعدهم.. ثورة جديدة لا يستخدم فيها السلاح، ولا تحتاج إلي القوة..
ثورة جديدة تقوم فقط علي أساس إقامة حياة ديمقراطية حقيقية وسليمة، وهذا المبدأ وحده كفيل بتحرير مصر من أي استعمار اقتصادي أو حتي عسكري، ويضمن إقامة العدالة الاجتماعية، ويقضي علي الاحتكار وسيطرة رأس المال، كما أنه يحافظ علي جيش مصر الوطني القوي ويدعمه ويطور إمكاناته، ويضمن مستقبلا أفضل للأجيال القادمة، ويحقق تداول السلطة، ويعيد للشعب سلطته الحقيقية في الاختيار وتحديد المصير.
لا يمكن أن نظل نعبد الأصنام في زمن استدل فيه البشر علي خالق الكون، ولا يمكن أن نظل نتغزل في ثورة يوليو التي تحقق أقل من ٢٠% فقط من مبادئها؟
No comments:
Post a Comment