الطربوش وثورة يوليو
بقلم : جـــمال الشــاعر
عندما ظهرت القبعات العسكرية التي يرتديها الضباط الأحرار تراجعت الطرابيش, واختفت تدريجيا من الحياة المصرية, وكأنما قد صدر قرار بإحالتها إلي الاستيداع. هل كان زمن الطربوش أجمل؟! روبير سولي مؤلف رواية الطربوش يري ذلك, وهو الذي عايش الحياة المصرية فيما قبل الثورة. ولد في القاهرة وعاش في مصر17 سنة ثم عاد إلي فرنسا وأصبح فيما بعد رئيس تحرير جريدة اللوموند. عندما تقرأ الرواية تحس أن مصر كانت مملكة كوزوموبوليانية عالمية مفتوحة علي كل الثقافات الفرنسية والإنجليزية واليونانية وخلافه, وتجد فيها الأرمن والشوام واليهود وتلمس ازدهار الفنون والآداب والصحافة, وترصد طموح المصريين في وثبة حضارية. كانت مصر ثاني دولة بها أوبرا بعد إيطاليا, وأول دولة في العالم الثالث وفي إفريقيا بها سكك حديدية وقطارات. وكانت في مصر ديمقراطية مدهشة وحراك سياسي رائع تجلي في زمن سعد زغلول العملاق الذي كان غاندي يخاطبه في رسائله بقوله: يا أستاذي.. هل يفهم من هذا أن الطربوش رمز لفترة حراك ثقافي عالمي وديمقراطي تقلصت بعد الثورة؟! وبالتالي ظهرت ثقافة نكوصية ارتدادية وفرت المناخ لظهور الأصولية الدينية مرة أخري, مربط الفرس هنا هو غياب التنوع الثقافي الخلاق, والخطورة تكمن في الأحادية السياسية التي كرست لها ثورة يوليو, أصابت هذه الأحادية حيوية المجتمع بالشلل المؤقت عبر أكثر من نصف قرن من الزمان, طبعا ثورة يوليو لها التماعاتها الوطنية التي تجعل المواطنين يصابون بالزهو, وفي الوقت نفسه يتغاضون عن التجاوزات والمظالم في سبيل أهداف قومية كان الجميع علي استعداد للتضحية من أجلها بأرواحهم, تأميم قناة السويس.. السد العالي.. العدالة الاجتماعية.. القضاء علي الإقطاع.. القضاء علي الاستعمار وأعوانه.. إقامة جيش وطني قوي.. إقامة حياة ديمقراطية سليمة. المفارقة هنا أن الثورة كانت لديها نيات حسنة لدقرطة الحياة السياسية والمواطنين, لكن ذلك لم يحدث لأسباب كثيرة نعرفها جميعا. الديمقراطية كانت موجودة في زمن الطرابيش, وفي زمن القاهرة الكوزموبوليانية. طبعا عودة الطرابيش لن تعيد الديمقراطية مرة أخري. ويحكي أن الشاعر حافظ إبراهيم قابله رجل أمي في عربة الترام وأعطاه جوابا ليقرأه له, فأراد حافظ إبراهيم أن يتخلص منه فقال: لا أعرف القراءة, فقال الرجل الأمي متعجبا: كيف وأنت ترتدي الطربوش ياسيدنا الأفندي؟! خلع حافظ إبراهيم الطربوش ووضعه فوق رأس الرجل وصاح فيه: الطربوش فوق رأسك.. تفضل اقرأ أنت. |
No comments:
Post a Comment