Monday, July 30, 2007

أجـراس الحـدث التركـي ورســائله

(1)‏ أجـراس الحـدث التركـي ورســائله: أهرام ثلاثاء 31 / 7 ‏بقلم .. فهمـي هـويـــدي
‏حبذا لو وسعنا دائرة اهتمامنا بالحدث التركي‏,‏ بحيث لا نكتفي بمتابعة أخباره المثيرة فحسب‏,‏ وإنما أيضا نستقبل رسائله ونستوعب دروسه وعبرته‏.‏لست أقلل من حجم الإثارة فيما وصف بأنه أعتي معركة انتخابية في تاريخ الجمهورية التركية‏,‏ وعندي أكثر من سبب يدعوني إلي أعذار الذين خطف الحدث أبصارهم‏.‏ فبهرتهم وقائعه علي نحو شغلهم عن رسائله ودلالاته‏.‏ لم لا والمعركة حامية الوطيس إلي الحد الذي استنفر المجتمع التركي بأسره‏(71‏ مليونا بينهم‏43‏ مليون ناخب‏),‏ حتي إن‏84%‏ من الناخبين اشتركوا في التصويت‏,‏ ومن بين هؤلاء عشرة ملايين شخص قطعوا عطلاتهم وعادوا من المصايف إلي مدنهم وقراهم ليدلوا بأصواتهم‏.‏ ورفع من درجة سخونة المعركة أنها كانت في جوهرها بين قوي علمانية وقومية اعتبرت تركيا مهدها وحصنها الحصين‏,‏ وبين قوة وطنية صاعدة ذات خلفية إسلامية‏.‏ وهذه الخلفية توفر بحد ذاتها ذخيرة وافرة للمطاعن والشكوك‏,‏ التي حفظناها لكثرة ترديدها في سياق السجال المستمر بين الطرفين في العالم العربي‏.‏ من التخويف من الأجندة الخفية التي تضمر الشر للديمقراطية‏.‏ إلي تفتيت المجتمع وإعادته إلي الوراء‏,‏ وانتهاء بتهديد النظام العلماني وتقويض أركان الدولة والانقضاض علي الجمهورية‏.‏ ولم يخل الأمر من محاولة هدم شخص الطيب أردوغان‏(53‏ سنة‏),‏ رئيس حزب العدالة والتنمية ورئيس الوزراء‏,‏ الذيغفر له خصومه أصوله الفقيرة‏(‏ أبوه كان جنديا في القوات البحرية‏),‏ وعمل في شبابه بائعا متجولا للمياه الغازية والسميط في إسطنبول‏,‏ لكنهم لم يغفروا له أنه درس في احدي مدارس الإمام والخطيب الدينية‏,‏ وبعد أن درس الادارة في جامعة مرمرة انضم الي حزب الرفاه الإسلامي‏,‏ الذي أسسه البروفيسور نجم الدين أربكان‏,‏ وبصفته تلك انتخب عمدة لإسطنبول‏.‏ وهذه الخلفية جعلت القوي العلمانية المتطرفة تتربص به‏,‏ حتي تصيدت له خطبة ألقاها في أحد التجمعات‏,‏ وردد فيها بعض أبيات لأحد شعراء التوجه الاسلامي‏,‏ قال فيها‏:‏ المساجد ثكنة جنودنا والقباب خوذتنا والمآذن رماحنا‏.‏ وهي العبارات التي بسببها قدم إلي المحاكمة بتهمة التحريض علي الكراهية الدينية‏,‏ فحكم عليه بالسجن لمدة عشرة أشهر‏,‏ قضي منها أربعة في الحبس ثم أفرج عنه‏.‏لم يقف الأمر عند ذلك الحد‏,‏ وإنما اتهم بالميكيافيلية وازدواج الشخصية‏,‏ ففي تقرير نشرته الشرق الأوسط في‏7/23‏ قالت مراسلة الصحيفة في أنقرة إن من المطاعن التي جرح بها أردوغان‏,‏ انه علي عكس الكثير من الاسلاميين‏,‏ لا يرفض مصافحة النساء‏,‏ لكنه يستغفر الله كلما صافح امرأة‏.‏ إلي هذا المدي وصلت سخافة الحملة ضد الرجل‏.‏ ومع ذلك كله فوجيء الجميع بالاكتساح الذي حققه أردوغان وحزبه‏,‏ حيث فاز مرشحو العدالة والتنمية بنحو‏47%‏ من مقاعد البرلمان‏,‏ وكانت هذه هي المرة الأولي في تاريخ تركيا الحديث التي يفوز فيها حزب حاكم بنسبة أصوات أعلي من التي حصل عليها في ولايته لأولي‏(34,3%).ا
‏‏(2)‏ الإثارة في الحدث في كفة‏,‏ ودلالاته في كفة أخري‏,‏ حيث أزعم أن ما جري في تركيا يبعث إلينا في العالم العربي بحزمة رسائل موجهة إلي ثلاثة عناوين‏:‏ الحركات الاسلامية من جهة‏,‏ والأنظمة العربية من جهة ثانية‏,‏ والمثقفون العرب من جهة ثالثة‏.‏وقبل أن أعرض لتلك الرسائل أذكر بحقيقة أرجو ألا تغيب عن البال‏.‏ وهي أن التجارب السياسية لا تستنسخ‏,‏ لأن لكل مجتمع خصوصيته الاجتماعية والتاريخية‏,‏ فالموضوع الاسرائيلي هناك ليست له ذات الحساسية القائمة في العالم العربي‏,‏ ربما لأن تركيا كانت أول دولة مسلمة اعترفت بإسرائيل عام‏48.‏ كما أن العلمانية هناك دين وليست مجرد مشروع سياسي‏.‏ وكمال أتاتورك له مكانة تفوق مقام الأنبياء‏.‏ حتي إن العيب في الذات الإلهية قد يعد من قبيل ممارسة حرية التعبير والرأي‏,‏ أما المساس بشخص أتاتورك فهو كفر بالملة الوطنية وتقويض لثوابت المجتمع‏,‏ وإذا كان من التبسيط والتسطيح الدعوة إلي نقل النموذج التركي‏,‏ فإن ذلك ينبغي ألا يتعارض مع محاولة الإفادة في دروس الخبرة التركية‏.‏الرسالة التي توجهها تجربة حزب العدالة والتنمية إلي الحركات الاسلامية تتضمن عناصر عدة في مقدمتها ما يلي‏:‏‏*‏ أن الحزب نجح في أن يقدم نفسه باعتباره مشروعا لانقاذ الوطن وليس مشروعا للجماعة‏,‏ ولأنه كان صادقا في مصالحته مع الواقع بمختلف مكوناته‏,‏ فإنه حصل علي تأييد نسبة كبيرة من أصوات الأقليات الدينية والعرقية‏,‏ ولم يجد عقلاء العلمانيين غضاضة في التصويت له‏.‏‏*‏ انه استلهم الايديولوجيا في التمسك بالنزاهة وطهارة اليد‏,‏ وبالانحياز إلي ما ينفع الناس‏.‏ وحين قدم الحزب النموذج في السلوك وفي الأداء‏,‏ وجد الناس فيه بغيتهم‏,‏ خصوصا حين أدركوا أنهم أصبحوا أفضل حالا في ظل حكم العدالة والتنمية‏,‏ إذ في خلال فترة حكمه التي استمرت بين عامي‏2002‏ و‏2006,‏ تضاعف متوسط دخل الفرد‏,‏ من‏2500‏ دولار في السنة إلي خمسة آلاف دولار‏,‏ وانخفض التضخم من‏29.7%‏ إلي‏9.65%‏ وزاد الناتج المحلي من‏181‏ مليار دولار إلي‏400‏ مليار دولار‏,‏ وارتفع الاستثمار الأجنبي من‏1.14‏ مليار دولار إلي‏20‏ مليارا‏..‏ إلخ‏(‏ مصدر المعلومات هو تقرير معهد الدولة التركي‏)‏ وذلك يعني أن الحزب استند إلي شرعية الانجاز فأيدته الأغلبية‏.‏‏*‏ أن التصالح مع المجتمع حين تزامن مع شرعية الانجاز الاقتصادي‏,‏ فإن ذلك وفر للمجتمع قدرا طيبا في الاستقرار السياسي‏,‏ الذي لم تعرفه تركيا منذ نصف قرن‏,‏ الأمر الذي عزز من مكانة الحزب‏,‏ إذ أدرك الناس أن استمراره في السلطة مفيد لهم ليس اقتصاديا فحسب‏,‏ وإنما سياسي أيضا‏.‏‏*‏ أن أداء حكومة العدالة اتسم بحسن ترتيب الأولويات وبالنفس الطويل‏.‏ وموقفها من قضية الحجاب يجسد هذه الحقيقة‏.‏ فرغم قول أردوغان ذات مرة إن الحجاب هو شرفنا‏,‏ وإن زوجته محجبة وكذلك زوجات أغلب قيادات حزبه‏,‏ فإنه لم يتخذ أي إجراء لالغاء قرار منع المحجبات من دخول الجامعات والمصالح الحكومية‏,‏ بل إن حزبه رشح بعض غير المحجبات في الانتخابات الأخيرة‏.‏ وقد سمعت من وزير خارجيته ومرشحه للرئاسة عبد الله جول قوله إن مسألة الحجاب ليست من أولويات أجندة الحزب‏.‏ وإن إشباع حاجات الناس وحل مشكلاتهم الأساسية هي ما ينبغي التركيز عليه في المرحلة الراهنة‏.
‏‏(3)‏ في العام الماضي ذهب إلي تركيا أحد الدعاة الذين اشتهروا في العالم العربي في السنوات الأخيرة بهدف دراسة تجربة أردوغان وحزبه‏.‏ ويبدو أن النجاحات التي حققها صاحبنا‏,‏ جعلت بعض المحيطين به يقنعونه بأنه يمكن أن يكون أردوغان بلاده‏.‏ وفي حدود علمي فإنه أمضي هناك شهرا أو أكثر لمتابعة الموقف والتعرف علي نشاطات الحزب‏,‏ ثم عاد بعد ذلك إلي بلاده ولم يفعل شيئا‏.‏ وحسبما فهمت فإنه اكتشف أن نجاحات أردوغان لم تكن راجعة لقدراته الشخصية فحسب‏,‏ وإنما كان للبيئة السياسية والاجتماعية في تركيا دورها في ذلك النجاح‏.‏هذه القصة تصلح مدخلا لاستيعاب رسالة الحدث التركي إلي الأنظمة العربية‏,‏ التي أحسبها المسئولة عن توفير البيئة للعمل السياسي‏.‏ ذلك أن ثمة بيئة تعلم الناس الاعتدال وأخري تلقنهم دروسا يومية في التطرف والقمع‏,‏ حتي قيل بحق إن كل نظام يفرز المعارضة التي يستحقها‏.‏فأردوغان وفريقه لم يولدوا في عام‏2001‏ حين أسسوا حزبهم‏.‏ وإنما هم ثمرة مخاض تجاوز عمره ثلاثين عاما‏.‏ حين أسس البروفيسور نجم الدين أربكان حزب السلامة الوطني في بداية السبعينيات‏,‏ في مناخ ديمقراطي بصورة نسبية‏,‏ احتمل حزبا إسلاميا احتكم إلي الشارع وكان له حضوره في البرلمان‏,‏ فدخل في ثلاثة تجمعات ائتلافية مع قوي اليمين واليسار التركي‏.‏ وهذا الحزب جري حله فشكل أربكان حزبا آخر باسم الرفاه‏,‏ وكان أردوغان من أركان ذلك الحزب‏,‏ الأمر الذي مكنه بصفته تلك من الفوز برئاسة بلدية اسطنبول عام‏95.‏ واستطاع أربكان أن يرأس حكومة ائتلافية مع طانسوتشلر زعيمة حزب الطريق المستقيم في عام‏96,‏ ولكنه اصطدم مع الجيش الذي تدخل لإسقاط الحكومة بعد عام واحد من تشكيلها‏.‏ وحكم القضاء بإلغاء حزب الرفاه‏,‏ فأسس أربكان حزب الفضيلة الذي حكمت المحكمة بحله أيضا‏,‏ فأسس بعد ذلك حزب السعادة الذي لايزال مستمرا إلي الآن‏.‏ وقد خرج أردوغان مع آخرين من حزب الفضيلة‏,‏ حيث انتهجوا خطا آخر فأسسوا في عام‏2001‏ حزب العدالة الذي استطاع أن يبلور مشروعا أكثر تفاعلا مع الواقع التركي‏,‏ ففاز ممثلوه في انتخابات‏2002‏ ثم في انتخابات‏2007‏ علي النحو الذي رأيت‏.‏رسالة هذه الخلفية تقول بوضوح إن المناخ الديمقراطي اذا كان نزيها فإنه ينبغي ألا يضيق بأي فكر‏,‏ وإن إنضاج ذلك الفكر وتهذيبه يتمان من خلال الممارسة‏,‏ وليس من خلال الخطب والأوراق المكتوبة‏.‏ تقول تلك الرسالة إن الاحتكام إلي الرأي العام من خلال الانتخابات النزيهة ينبغي أن يكون المعيار الذي تتحدد به خطوط المشروعات السياسية والفكرية المختلفة‏.‏ وقد وجدنا في التجربة التركية الأخيرة أن حزب السعادة الذي خرج أردوغان من عباءة مؤسسة نجم الدين أربكان حصل علي‏2%‏ فقط من الأصوات‏,‏ في حين أن حزب العدالة حصل علي‏47%‏ من الأصوات‏.‏ وكان المجتمع هو الذي قرر تلك الحصص‏.
‏‏(4)‏ سبقني الدكتور عزمي بشارة في التقاط رسالة الانتخابات التركية إلي المثقفين العرب‏,‏ حين نشرت له صحيفة الحياة اللندنية في‏(7/26)‏ مقالة بعنوان‏:‏ أسئلة إلي العلمانيين العرب مع انتصار الإسلام المعتدل في تركيا‏.‏ وهي مقالة انتقد فيها موقف غلاة العلمانيين الذين رأوا في العلمانية موقفا من الاسلام السياسي‏,‏ الذي لم يعد ممكنا تجاهله في الواقع العربي‏.‏ ولاحظ التطور المستمر في فكر التيار الاسلامي والمشروع السياسي‏,‏ ودعا إلي إدراك التمايزات المهمة بين فصائل ذلك التيار‏,‏ كما دعا إلي انضاج رؤية العلمانية إلي الاسلاميين‏,‏ وإلي مراجعة وتطوير رؤية الاسلاميين إلي العلمانيين‏.‏هذه الخلاصة تركز أغلب ما أردت أن أقوله فيما يخص المثقفين العرب‏.‏ وقد أضيف إليها من باب الايضاح فقط نقطتين‏,‏ الأولي انه ليس من النزاهة السياسية أو العلمية أو حتي الأخلاقية أن يوضع كل أصحاب التوجه الاسلامي في سلة واحدة‏,‏ كما أنه ليس من حسن القراءة أن يجير الخطاب الاسلامي لحساب جهة ذاتها‏,‏ حتي اذا ما أصرت علي أن تقدم نفسها بحسبانها الممثل الشرعي الوحيد‏.‏ النقطة الثانية أن بين العلمانيين من اعتبرها حرفة وليست موقفا أو رؤية‏.‏ وهؤلاء أخفوا كراهيتهم للإسلام وأهله مرة تحت وشاح العلمانية‏,‏ ومرة باسم الدفاع عن الديمقراطية‏,‏ وهم من لايزالون يعتبرون أن التوجه الاسلامي دائرة مصمتة ومغلقة‏,‏ لا يرجي منها خير أو أمل‏,‏ ومن ثم لا بديل عن اقصائها أو إبادتها من الوجود‏.‏ وهؤلاء معفون من استلام رسالة الانتخابات التركية‏.‏إن توجيه الرسائل مهم لا ريب‏.‏ لكن الأهم من ذلك هو استلامها‏.‏

No comments: