Saturday, July 28, 2007

نحو مشروع إسلامي للسلام

دراسة: نحو مشروع إسلامي للسلام (1)

د. محمد سيد سعيد



Image
د. محمد سيد سعيد
في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ أمتنا العربية والإسلامية تبدو الحاجة ماسة إلي طرح رؤى جديدة ومشروعات جادة للخروج من المأزق الحالي، ويقدم د.محمد السيد سعيد نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية في هذه الدراسة مشروعاً للسلام الإسلامي يشرح فيه الموقف الحقيقي للإسلام من قضايا الحرب والسلم والأسباب الحقيقية للعنف في الحقبة الراهنة من التاريخ العربي والإسلامي... طالع في الدراسة:

مقدمة

حق المسلمين أن يغضبوا لدينهم وكرامة نبيهم وكرامتهم كمؤمنين مما يشيع في العالم الغربي وفي بعض النظم الثقافية الأخرى من دعاية مقيتة ضد الإسلام. دأبت هذه الدعاية على إشاعة الاعتقاد بأن المسلمين ميالون للعنف والحروب والإرهاب التزاما بما يمليه عليهم دينهم من "جهاد"!. ولا شك إطلاقا، أن هذه الدعاية المنهجية المنظمة عنصرية وتنطلق من مصالح سياسية ومن عقلية جاهلة بمنظومة العقائد والأخلاق الإسلامية.

ويضاعف من قوة هذا الغضب ومشروعيته، أن هذه الدعاية تتدفق بقوة وتتوفر عليها إرادة سياسية يأتي بعضها من دول وتتعاون فيها أو تخططها قوى صهيونية وامبريالية تتآمر لتدمير شعوب عربية بكاملها، وعلى رأسها الشعب الفلسطيني وحماية الامتيازات التي جنتها إسرائيل وجعلتها فوق القانون الدولي ومعفاة من أحكامه. لا شك مطلقا في مشروعية هذا الغضب وهذه الثورة الأخلاقية الشعبية التي تدفقت في أصقاع العالم الإسلامي بأسره.

غير أنه يتعين علينا أيضا أن نرى الجانب الآخر من الصورة. فمقابل توفر آلة دعائية منهجية ومقتدرة وكبيرة على التحريض ضد العرب والمسلمين؛ ثمة أعداد كبيرة من البشر في جميع النظم الثقافية الكبرى، بما فيها ما درجنا على تسميته بالغرب، يناهضونها ويرفضونها كدعاية عنصرية ومعادية لحقوق الإنسان، وممهدة أو محرضة على الحرب، ومعززة لنظرية صراع الحضارات أو الثقافات. ما بين رهبان ورجال دين مسيحيون ويهود ومن كافة الأديان والعقائد الأخرى، ويتطوع عشرات، بل ومئات من المفكرين والقادة الثقافيين والأدباء والمبدعين والنشطاء السياسيين لصد هذه الهجمة الشرسة ضد الإسلام على المستوى الفكري ويقومون بشرح الرسالة الإسلامية ومضمونها ألسلامي.

يتعين علينا أيضا، أن نعترف بأنه ليس جميع من تأثر بالدعاية الممقوتة ضد الإسلام حاقدين ذوي نوايا سيئة، أو كارهين "طبيعيين" للإسلام والمسلمين، أو معادين لهما بالسليقة أو بحكم تحيزات مسبقة.

بل إن جانبا كبيرا من المسئولية يقع على مسلمين تعاملوا مع دينهم بصورة خاطئة جذريا وصوروه بطريقة لا تختلف كثيرا عما نسبه له البابا بينيدكت السادس عشر في خطابه بإحدى الجامعات الألمانية أو غيره من الدعاة المحترفين أو الكارهين فعلا للإسلام والمسلمين.

فعندما يقوم تيار سياسي كامل بحمل السلاح في وجه العالم آمرا أتباعه بالقيام بعمليات تفجير عشوائية أو عمليات انتحارية يسقط فيها قتلى أبرياء من مختلف الجنسيات والأديان في مناطق مختلفة من العالم، بما فيها الجزائر والمغرب والمملكة السعودية، فضلا بالطبع عما حدث في نيويورك وواشنطن ومدريد ولندن وأعلنت قيادات تنتسب لهذا التيار مسئوليتها عنه، عندما يقوم هذا التيار، ومن تبعه من تنظيمات، بحملات إرهاب مروعة، وعمليات قتل وقطع الرءوس، وتشويه الجثث وإلقاءها في الأنهار، كما يحدث في العراق، وتبرير كل ذلك باسم الإسلام، نستطيع أن نفهم لماذا يسهل على أعداء وخصوم الإسلام إقناع ملايين من الناس حسني النية بدعاياتهم المسيئة للإسلام.

ويضاعف من قوة الانطباعات المسيئة للإسلام، أو بالأحرى للمسلمين، أنهم يمرون بحقبة حُبلى بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي مرت بها مجتمعات أخرى قبلهم بسبب التحول إلى "الحداثة" الرأسمالية، وهى حقبة تتميز بقدر كبير من العنف الداخلي. وفي نفس الوقت، فإن هذه المجتمعات وجدت نفسها مشتبكة في سلسلة من النزاعات والصراعات الدولية حول الحدود والانتماءات والهويات السياسية بعد خروجها من أتون التجربة الاستعمارية. وولدت هذه الصراعات بدورها قدرا كبيرا من العنف واستمر بعضها في إنتاج العنف حتى الآن.

نضيف إلى ذلك، ما أفرزه غرس إسرائيل في قلب المنطقة العربية على حساب الشعب الفلسطيني من إحباطات هائلة، وخاصة مع وقوع سلسلة من الهزائم القومية المهينة. فبسبب هذه الإحباطات واعتبارات أخرى معقدة، انبثقت موجات هائلة من الغضب في صدور الأجيال الشابة عبرت عن نفسها جزئيا من خلال أيديولوجيا العنف والتطرف التي تجسدت في تنظيمات من مثل "القاعدة".

أفرخ كل ذلك عددا كبيرا من الصراعات الممتدة زمنيا، والقاسية من حيث نتائجها الإنسانية والسياسية. وفي الحقبة الأخيرة ذاتها، تطوعت التنظيمات المتطرفة بتأطير العنف أو تبريره باسم الإسلام. وهو ما يكرس الانطباع السائد في بعض الدوائر العالمية بأن الإسلام ذاته يحض على العنف ضد الآخر الديني أو السياسي!.

تلزمنا هذه الوقائع بالقيام بجهد مضاعف لشرح الموقف الحقيقي للإسلام من قضايا الحرب والسلم والأسباب الحقيقية للعنف في الحقبة الراهنة من التاريخ العربي والإسلامي.

مفهوم الحرب في الإسلام

طفل فلسطيني يواجه دبابة إسرائيلية

الواقع، أن لا شأن للإسلام، كدين، بالحروب وموجات العنف التي شارك فيها مسلمون. ويؤكد هذه الحقيقة أن 28 من 55 حربا أهلية أو دولية شارك فيها مسلمون - كجماعات أو دول- منذ بداية عقد الستينات كان طرفاها مسلمون. وفي غالبية الصراعات الأخرى، كان المسلمون الطرف الأضعف أو الطرف المعتدى عليه من جانب آخرين. والصراع العربي-الإسرائيلي هو نموذج حي، وإن لم يكن وحيدا بالطبع على هذه الحقيقة.

ويشهد على هذه الحقيقة أيضا، أن التنظيمات الإسلامية المتطرفة لم تكن الوحيدة التي زجت بدينها أو وظفته في صراعات سياسية دولية أو أهلية.

ويكفينا في هذا الصدد، أن الحركة الصهيونية وإسرائيل كانت هي السباقة إلى توظيف الدين- أي اليهودية- في مشروع سياسي استعماري وفي خدمة سلسلة من الحروب الاستعمارية.

ويكفينا أيضا، أن ميليشيا عسكرية تسمى نفسها جيش الرب تيمنا بالسيد المسيح وبالمسيحية كانت، ولا تزال، مسئولة عن موجة غير مسبوقة من العنف الهمجي في بلد إفريقي، كأوغندا، وأن رجال دين أعضاء في الكنيسة الكاثوليكية شاركوا في واحدة من أكثر موجات الإبادة الجماعية قسوة في تاريخ العالم الحديث، وهى تلك التي وقعت في رواندا وبورندى.

ويمكننا أن نشرح للعالم أيضا، أنه لا مجال للمقارنة بين العنف الذي يشتبك فيه مسلمون وتاريخ العنف الغربي الحديث. كل ذلك ممكن وضروري، ولكنه لا يكفي إطلاقا لاستعادة صورة الإسلام المضيئة التي اختطفها المتطرفون لأسباب كثيرة.

إذ يُتوقع أن تستمر موجة الإرهاب لفترة إضافية طويلة أو قصيرة، لأن أسبابها الأعمق لم تنته ولا يُتوقع أن تنتهي قريبا. كما أن بعض الصراعات الدولية والحروب الأهلية في عدد من الدول العربية لن تتوقف قريبا.

في بداية عام 2007 كان ثمة 16 حربا أهلية أو دولية أحد طرفيها مسلمون من بين 42 حربا أهلية أو دولية على المستوى العالمي. وبعض هذه الصراعات سيبقى مشتعلا لفترة إضافية في المستقبل. ومن ناحية ثالثة، فان الجيل الراهن من فقهاء التطرف والعنف باسم الدين الإسلامي سيبقى مؤثرا لفترة إضافية وربما طويلة مقبلة.

كل ذلك يشير إلى قوة الانطباعات المتولدة عن نمط الممارسة وخاصة الممارسة السياسية. ولهذا السبب، نعتقد أنه أن الأوان لاستعادة زمام المبادرة من المتطرفين ولإقدام التيار الرئيس من الفكر الإسلامي الحديث بمبادرة كبيرة للسلام باسم "مشروع سلام إسلامي".

إن ما نعنيه بمشروع سلام إسلامي، هو أطروحة لبناء السلام على المستوى العالمي وأيضا على المستوى الداخلي بين المسلمين. ولا شك أن هذه الأطروحة يجب أن تكتسب قوة سياسية وزخما إعلاميا كبيرا يساندها من أجل استعادة صورة الإسلام، كموئل للرحمة ومسكن للسلام الروحي والسياسي أيضا. ولهذا المشروع أبعاد متعددة تضم:

الاجتهاد الفقهي والفكري

أول أبعاد مشروع السلام الإسلامي للعالم يتعلق بالجهد الفقهي المطلوب لبيان موقف الإسلام من الحرب والسلام. يكتسب هذا البعد أهمية بالغة نظرا لشيوع الاعتقاد بأن الفقه درج على ترديد ثنائية "دار الحرب ودار الإسلام أو السلام".

والواقع أن الرؤية الإسلامية للعالم لم تقم على هذه الثنائية، كما أن الممارسة الفعلية والتاريخية أبعد ما تكون عن تكريس هذه النظرة التبسيطية. فقد حارب المسلمون بعضهم بعضا أكثر كثيرا مما حاربوا غيرهم، كما أنهم تعرضوا للعدوان الخارجي أكثر كثيرا مما قاموا بالعدوان على غيرهم فيما يسمى بالفتح.

وبينما شاعت الحروب في التاريخ كأسلوب لاكتساب الأراضي والمغانم، لم يمنح المسلمون أنفسهم حق الهجوم ابتداء على غيرهم بدون شرط أو قيد. بل طور الفقهاء نظرة مميزة لقضية الحرب وجعلوها استثناء.

بيد أن الفكرة الشائعة عن الفقه ليست غير مبررة تماما. فقد تصرف الفقهاء كمنظرين للحروب أحيانا وهو ما فعله مختلف المفكرين قبلهم، وفي أكثر الأحيان، تصرف الفقهاء أو فكروا كقادة قوميين وعبر المنقولات والحمولات الذهنية العرفية لا الدينية.

وكثيرا ما يقال إن فقهاء الإسلام الأقدمين لم يعرفوا الفارق بين الحروب الدفاعية والحروب الابتدائية أو الهجومية أو أعمال العدوان، وهو الفارق الذي ينسب إلى القديس توما الأكوينى في نظريته المعروفة عن "الحرب العادلة".

الحروب العادلة في الإسلام

د.نصر فريد واصل

والواقع، أن المنظومة الكلية للفقه الإسلامي، فيما يتعلق بالحروب، تضمنت في الجوهر ما نسميه اليوم بالحروب العادلة. ولذلك وضعت اشتراطات وقيودا كثيرة على ممارسة البدء بالحرب وعلى كيفية ممارستها.

وتبرز هذه النظرة، بوجه خاص، في الاجتهادات الحديثة المحترمة حول الحرب والسلام في الفكر الإسلامي. فيؤكد المفكر السوري الكبير الدكتور مصطفي السباعي، أن الأصل في القرآن والإسلام هو السلام وأن الحرب شرعت للدفاع ولإنهاء الظلم والبغي فقط.

ويتفق خاصة علماء الإسلام وفقهاؤه من السنة والشيعة، على أن الإسلام لم يشرع الحرب إلا لرد العدوان على الدين والنفس والوطن. ويستدل د. نصر فريد على هذا الرأي بما ورد في الآيات الكريمة: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين". وقوله تعالى: "فان اعتزلوكم ولم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا". وقوله: "فإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم".

ومع أن هذه النظرة كانت ولا تزال تشكل التيار الرئيس في الفقه الإسلامي. إلا أنه لا يمكن التقليل من أهمية وتأثير الفقه المتطرف الذي انبثق من أعمال الفقيه الباكستاني أبو الأعلى المودودي والفقيه المصري سيد قطب والمصادر الفقهية القديمة التي استندا إليها في تأكيدهما لفكرة الحرب الابتدائية أو البدء بالحرب لنشر "دعوة الإسلام" أو لتأسيس "نظام الإسلام".

وتنبع هذه الأهمية من أن نظرتهما في الحرب والسلام صارت هي الرؤية المعتمدة لتيار العنف في حركة الإسلام السياسي خلال الربع الأخير من القرن العشرين وحتى الآن، وبصورة خاصة لدى تيار "القاعدة". ولم يتمكن التيار الرئيس في الفقه الإسلامي من إعادة استلام زمام المبادرة الفقهية ذات الثقل السياسي حتى الآن.

تُلزمنا هذه الحقيقة بإنجاز مهمة استعادة صورة الإسلام فيما يتعلق بقضية السلام بعد التشويه الذي لحق بها على يد الغلاة والمتطرفين وذلك من خلال ما نسميه بمشروع سلام إسلامي.

والواقع، أن الفكر الإسلامي طوال تاريخه يملك مكونات أساسية لهذا المشروع. غير أن هذه المقومات تتراوح بين القدم والحداثة وتختلط مع غيرها أحيانا بصورة تفضي إلى الخلط، بل وقد تبرر الغموض والإيحاءات المناقضة.

وقد أشرنا بالفعل إلى بعض المقومات الضرورية والكامنة في الرؤية القرآنية للسلام والحرب. ونتصور أنه يتعين على الفكر والفقه أن يستكملا هذه المقومات جزئيا من خلال قراءة أكثر شمولا وعمقا للرؤية القرآنية وجزئيا من خلال استلهام وتقويم بعض المنجزات الأساسية في مشروع الحداثة.

تمنحنا القراءة المتعمقة للرؤية القرآنية مقومات أساسية لم ينهها أو لم يحسمها الفكر الإسلامي بالقوة والوضوح الكافيين.
أول هذه المقومات (الناقصة): هي التأكيد على الإحداثيات الكلية للرؤية القرآنية فيما يتعلق بمكانة الإنسان في العالم. ويمكن لهذه الإحداثيات المساعدة في تشكيل ما يمكن تسميته "الإنسانية الإسلامية". ونشير هنا في الواقع إلى إشكالية العلاقة بين الدين والإنسان.

ففي الرؤية الغربية تشكلت الإنسانوية كرؤية للعالم ومكانة الإنسان فيه عبر معارضة ما هو ديني وما هو بشري. ونظرا لهيمنة رؤية كنسية تقوم على فكرة "القانون الإلهي" وامتثال الإنسان التام للتعاليم الإلهية فيما يتعلق بالحياة الأخلاقية أو المثالية على المستويين الفردي والاجتماعي، انبثقت الإنسانوية الغربية الحديثة لتعيد الإنسان إلى مركز العالم ولتمنحه حرية الاختيار والحق في تقرير مصيره بنفسه.

الرؤية القرآنية واستخلاف الإنسان

وبغض النظر عن الواقع التاريخي المتعين، فإن الرؤية القرآنية تحل معضلة العلاقة بين الإنسان والله بصورة كافية ابتداء. فالإنسان، في الرؤية القرآنية، "مُستخلفٌ" في العالم: أي مُكلف بمهمة إعمار الكون. ومن ثم، المحافظة على سلامه وسلامته.

ينظر القرآن لهذه المهمة كأمانه أو بالأحرى كعقد أمانه إيماني الطابع، وإن كان قابلا للترجمة القانونية أو العقدية في العالم من خلال القانون الديني والوضعي معا، فمن الناحية الوضعية : لا فارق حقيقي بين الفكرة الحديثة عن "البيئة" أو مهمة إنعاش البيئة من ناحية وفكرة "إعمار الكون" من ناحية ثانية. ذلك أن الفكرة الأخيرة تعد أكثر رقيا وتقدما من ناحيتين : تحريم (وتجريم) تخريب البيئة والحياة الإنسانية من ناحية، والالتزام بإثرائها دون إيذائها من ناحية ثانية.

يبدو أن المعنى الأعمق للسلام من وجهة النظر القرآنية "كونيا" بالفعل.
نحن نتحدث هنا عن سلام كوني: أي سلام بين الإنسان والطبيعة، ويظهر هذا المعنى بوضوح بالغ في فكرة إضافية تُجلي مبدأ الإعجاز الإلهي وتلزم الإنسان بنفس القيمة، وهي فكرة التوازن الكلي في الكون؛ والذي بدونه يقع الاختلال وتُباد الحياة.

إن السلام مبدأ كوني ولكنه أيضا بشري: أي يتعلق بتنظيم الحياة الاجتماعية. وببساطة آسرة تشرح لنا الرؤية القرآنية فكرة التوازن الكلي في المجتمع، بتعبير آخر في الحياة الإنسانية، وهو تعبير "التدافع" : أي ما يسميه الفقه الدستوري الحديث بالضوابط والتوازنات Checks and balances.

في هذا الإطار وضمن هذا السياق، يكتسب الإنسان حريته: ليست له حرية في تخريب توازنات الكون وانسجامه الطبيعي، وهو حر في اختيار مقترباته ووضع صياغاته الخاصة فيما يتعلق بكل قضاياه البشرية : أي الاجتماعية التاريخية فيما عدا ذلك.

ثمة توازن أيضا بين القانون الإلهي والقانون الوضعي. فالأول يشير إلى التحليل والتحريم كوازع أخلاقي وديني. والثاني، يشير إلى التكريم والتأثيم المجتمعيين. وفيما بين المستويين تقسيم للمجالات من ناحية وشيء من التكامل في التاريخ الاجتماعي من ناحية أخرى. والتقسيم واضح بذاته. فالثواب والعقاب الإلهيين يتمان في الآخرة بينما المكافأة والعقاب الوضعيين يتمان في الدنيا وعلى يد سلطات وضعيه مقيدة.

أما التكامل فواضح للغاية. إذ لم يفرض القرآن سوى عددا قليلا جدا من التشريعات اللازم تطبيقها، وبقدر واضح للغاية من المرونة في الواقع الاجتماعي، ويلزم أن يكون هناك قانون إلهي فيما يتعلق بالإحداثيات الكبرى للوجود وهدفها هو تعزيز الحياة.

وهناك أيضا إرشاد قوي عن وجوب قيام قانون وضعي يضعه البشر بأنفسهم وعبر اختيارهم الحر. تعنى فكرة القانون الوضعي هنا أمرا ضروريا للغاية وبسيطا كل البساطة، إذ يستند على البداهة أو الفطرة وهى ما تعنيه مدرسة القانون الحديث بالقانون الطبيعي.

إن الإحداثيات الكبرى في الكون، كما توضحها الرؤية القرآنية، ليست واضحة بذاتها للإنسان بالرغم من نداء الفطرة دائما. هنا يلزم أن يتدخل العقل في كل ما يتعلق بالاختيار البشرى الحر.
ولا تدانى كلمة تلك الوضعية التي اكتسبتها لفظة "العقل" ومرادفاتها في القرآن. ولا يني القرآن عن تذكيرنا بأن العقل هو مناط إدراك الإلوهية ذاتها، وهو أيضا الطاقة الإنسانية المكلفة بالأمانة. وهي ترتهن إلى امتلاك الإنسان تلك الصفة الكلية التي تصف بأفضل طريقة طبيعة الخالق : أي العقل.

يبدو العقل البشرى كقبس من الله. الله هو العقل المولد الأول والإنسان هو العقل بمستواه الثاني أو الثالث والمشتق من الأصل المولد. والفارق واضح: الله هو عقل محض والإنسان هو عقل مسكن في مادة لا عقلية. والخطاب هو أمر أو نداء باستخلاص أو استنقاذ ما هو عقلي مما هو لا عقلي.

وفقا لهذا، الإنسان مكلف بالدفاع عن السلام كاستنباط عقلي. ودون العقل لا مكان للسلام في العالم. والاختيار بين الحرب والسلام هو اختيار استنقاذ العقلي من اللاعقلي: أو الهمجي. وهو بهذا المعنى فعل نضالي في الأساس.

إعمار الكون أمانة تبدأ بادراك ما وضعه الله فيه من توازن. والإعمار هو الدفاع عن الحياة ومن ثم عن السلام كفعل نضالي. هنا تتلازم فكرة التوازن مع فكرة السلام بما يعيننا على فهم أن النضال ليس فعلا عسكريا أو بدنيا بل هو فعل عقلي. بل وعلى نفس الدرجة من الأهمية يعني هذا الفعل العقلي في الجوهر الدفاع عن "الاعتدال" بصفته التوازن في كل الأفعال. وقد أدرك فلاسفة الإسلام هذا المعنى للاعتدال وجعلوه جوهر كل أخلاق حميدة. فالصبر كقيمة أخلاقية هو الحد الوسط: أو الفعل المعتدل بين تطرفين أي التبرم والعجلة من ناحية والتسليم وفقدان الإرادة من ناحية ثانية. وهكذا تمضي قواعد الاستحسان والاستقباح في كل مظاهر السلوك البشرى.

إشكالية السلام والعدل

السلام يرتبط بالعدل

وهنا أيضا تقع إشكالية السلام والحيز الملائم لحلها في الوقت نفسه: أي العدل. فلا سلام في الرؤية القرآنية بدون العدل. والدفاع الشرعي عن النفس هو ابتداء إملاء الفطرة السليمة. وهو أيضا العدل باعتباره استنباطا عقليا. ولكن الأمر يتجاوز بكثير حق الدفاع الشرعي.

فالفطرة السليمة أو القانون الطبيعي يملي أيضا مقاومة الظلم والتوق للعدل. والأمران يمثلان الدافع الأقوى للنضال بما في ذلك النضال المسلح: أي الحرب سواء كانت داخلية (أهلية) أو دولية (بين الأمم والشعوب والدول).

تكرس الرؤية القرآنية الحق في شن الحرب ابتداء بغية نيل العدل. وعكس الحرب أو النضال بصورة عامة هو قبول الظلم والإذعان له ومن ثم قبوله فعليا وعقليا وهو ما ينتهي بخلل جسيم لا في نظام المجتمع والأخلاق فحسب بل بالإخلال بنظام الكون وتجانسه وجماله أيضا. لا تناقض هنا بين معنيي النضال والسلام. بل هناك تكامل فلسفي وأخلاقي بينهما. فالنضال هو مقاربة السلام عن طريق الفعل. وهدف الفعل النضالي هو استعادة التوازن في الكون والعدل في الأرض.

هنا تنحصر مشروعية الحرب في معنى "الحرب العادلة" وهى في اللغة القرآنية نقيض معنى العدوان الذي عبر الله سبحانه عن كراهيته له. ولكن هناك فارق كبير بين النضال أو ما نسميه في اللغة السياسية الراهنة بالمقاومة من ناحية والحرب من ناحية أخرى وبصورة أخص الحرب الابتدائية من ناحية ثانية. الحرب عموما هي نضال ولكن النضال لا يلزمنا بالحرب إلا كملجأ أخير أي كحالة أو موقف استثنائي.

هنا بالتحديد تكمن الإشكالية الوضعية في تعيين لزومية الحرب من الناحية النظرية. فثمة خطأ كبير في فهم الشعار الذي ترفعه مختلف الحركات المناهضة للظلم (مثال الهيكلية الراهنة للعولمة) والذي يقول "لا سلام بدون عدالة". الشعار بذاته سليم باعتباره استنتاجا أو استنباطا عقليا. فلا مقام للسلام في ظل الظلم. والظلم يفضي بالضرورة إن آجلا أو عاجلا للحروب.
ولكن هذا الاستنتاج ليس شعارا أو موقفا نهائيا أو مطلقا أو راهنيا وإلا وصلنا إلى تشريع العدوان.

فثمة أولا اختلاط شديد في تعيين معنى الظلم والعدل في أحيان كثيرة. فالحياة الإنسانية عموما والمجتمعية بوجه خاص لم تعرف عدالة كاملة أو مطلقة أيضا، لأنه لا توجد يوتوبيا على الأرض. وفي سياق تداعى وتكاثف العلاقات والتفاعلات بين الأفراد والجماعات والمجتمعات أو الدول والأمم ثمة تمازج أحيانا بين العدل والظلم أو بين الحق والباطل أو الحسن والقبيح. وليس من العقل ولا من الممكن كذلك أن ننادي بالحرب أو الكفاح أو المقاومة المسلحة في وجه كل ما يعتقده جماعة ما من الناس ظلما وإلا انتهينا إلى الفوضى الكاملة.

الفارق بين العدوان والمقاومة

وفي سياق التفاعلات والتداعيات اليومية الكثيفة بين الناس وسلاسل الأفعال وردود الأفعال التي تنشأ عن إدراك مظلمة ما قد يضيع الفارق تماما بين العدوان والمقاومة أو بين الهجوم والدفاع. ويملي المنطق أو حتى الفطرة السليمة التمييز بين الوقائع وإصدار حكم عن كل واقعة تبعا لمقاديرها أو أقدراها.

فليس من المعقول ولا من الفطرة السليمة أن نطلق سلسلة من عمليات الثأر مثلا قد يقتل فيها "بدون حق" آلاف الناس لمجرد أن وقع عدوان على شخص واحد في البداية أو وقع ظلم بسيط يمكن بكل تأكيد تداركه بالتفاوض.

ويحفظ لنا التاريخ السياسي والأدبي مثلا كيف وقعت حرب البسوس قبل الإسلام لمجرد خلاف بسيط على "جمل". وقد أدان الإسلام هذه العقلية الثأرية التي تنتهي بتخريب الحياة الإنسانية لعدة أجيال بسبب واقعة بسيطة اختلفت فيها تقديرات جيل واحد أو بنهاية المطاف شخصان.

وليس من المنطقي أو من باب الفطرة السليمة أن يتم إطلاق الحق في المقاومة أو الكفاح المسلح إلا عندما يقع ظلم كبير بجماعة صغيرة أو كبيرة من الناس. وقد احتفظت لنا الرؤية القرآنية بمثل يقاس عليه في تعيين الظلم الكبير وهو "الإخراج من الديار" وهو ما يذكرنا بالحالة الفلسطينية في الواقع العربي المعاصر. ولكن حتى في هذه الحالة لا يبدو إطلاق الحق في المقاومة المسلحة أمرا دون قيود أو شروط. إذ يصطدم هذا التفسير بأفضلية السلم على الحرب كقاعدة عامة في الرؤية القرآنية أو الإسلامية.

ويتدخل هنا شرطان جوهريان: الأول هو العقل والثاني هو الصبر. الشرط الأخير يبدو أمرا معقولا بذاته. فإن وقع ظلم فإن النضال بالمعنى العام: أي النضال السلمي هو تكليف ضروري في كل الأوقات والأحوال باعتباره تعبيرا عن فضيلة الصبر. والصبر لا يتحدد مطلقا بالاستسلام أو الإذعان أو قبول الظلم أو التعايش مع الابتلاء وإنما هو فعل ينطلق من تفضيل الحكمة: أو النضال السلمي على غيره من وسائل ومقاربات النضال ضد الظلم.

وينبغي بالطبع أن تعمل الحكمة ابتداء في تعيين معنى الحق والباطل أو العدل والظلم ثم بعد ذلك في تفضيل مقاربات النضال ضد الظلم. وهذا هو المعنى العظيم في الآية الكريمة التي تقول "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين".
فالإنسان مأمور بمقاومة الظلم ولكنه ليس مأمورا بأن يهتف بنداء الحرب كلما شعر بأن ظلما وقع به. وهنا يعني النضال في الجوهر المفاوضة بالمعنى الواسع للكلمة والتي قد تتجسد في الوساطة والمصالحة والتحكيم والتقاضي. فإن فشلت كل هذه المقاربات والوسائل تطرح الحرب نفسها كآلية ممكنه ومشروعة.

كون الحرب آلية مشروعة لا يعني الأخذ بها بالضرورة كاختيار. إذ يتدخل هنا الشرط الثاني وهو العقل. فلا يمكن أن نعقل مثلا أن يهتف الناس بالحرب التي قد تبيدهم مثلا من أجل الدفاع عن مصالح مادية مهما كانت قيمتها. والواقع، أن هذا التقدير ليس أمرا مجازيا بأي معنى. فكثيرا ما وقعت إبادة شعوب بكاملها بسبب الحروب المتصلة.

غير أن هذا المصير نفسه قد يقع الآن في دقائق قليلة إذا وقعت حروب نووية. بل يمكن القول بأنه لا توجد قيمة أو قضية جديرة بأن يشعل الناس بسببها الحرب لو أنها تعني إبادتهم. وهذا هو ما قالت به حركة مناهضة الحرب في فيتنام ردا على التحذير من خطر الشيوعية في الولايات المتحدة والغرب عموما: الأفضل أن يكون المرء أحمرا عن أن يكون ميتا Better red than dead

ومن المؤكد أنه يجب عقلا أن يكون هناك تناسبا بين تكلفة الحرب والقيم أو المصالح التي ينطلق الناس من الدفاع عنها بما فيها قيمة العدالة مفهومة بصورتها المادية الملموسة. ويجب أن يحترم الحكم العقلي الذي يقول بأن الدفاع السلمي عن العدالة له أولوية على الدفاع أو الهجوم العسكري وبصورة خاصة عندما تفرض الحرب تكلفة أكبر بكثير من الهدف منها.

وكأحد التعبيرات عن هذه القاعدة العقلية يجب أن تكون القوة الموظفة في سياق النضال بما فيه النضال العسكري من أجل قيم كلية ضد مخالف أو ظالم ما أكبر بصورة ملموسة مما يملك هذا الظالم توظيفه في حرب ما. وقد استخدمت الدول هذا المبدأ العام من خلال عقد التحالفات مما أدى أحيانا لسقوط هذا الشرط من الناحية العملية عندما تكون التحالفات متاحة على جانبي الصراع العسكري أو السياسي.

أما في ظل الفكرة الحديثة عن التنظيم الدولي، فإن هذه الفكرة تطورت إلى أطر أرقى نظريا فيما يسمى بمبدأ "الدفاع الجماعي". والواقع أن هذه الفكرة متجذرة في الرؤية القرآنية وخاصة في الآية الكريمة "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلو التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله....".

السلام الإسلامي والأمم المتحدة

ولكن قيام نظام للأمن الجماعي يقوم بهذه الوظيفة بصورة منهجية يعني قيام منظمة دولية تملك تفويضا من جانب دول العالم بهذا الاختصاص. ويمثل تأييد قيام الأمم المتحدة بهذه الوظيفة أحد أهم عناصر المشروع الإسلامي المقترح للسلام الدولي. ومع ذلك، فلا بد أيضا أن يقدم هذا المشروع نقدا شاملا لأداء الأمم المتحدة منذ نشأتها وأن يؤسس هذا النقد على رؤية مستقبلية لتثوير أداء هذه المنظمة الدولية وليس لهدمها.

وثمة عناصر ضرورية متفق عليها عالميا لهذا النقد مثل احتكار دولة واحدة وهي الولايات المتحدة ومعها عدد قليل من دول العالم للقرارات الخاصة بصيانة السلم والأمن الدوليين وإمكانية التلاعب بالمنظمة الدولية وتجميد الأداء القضائية للمنظمة الدولية أي محكمة العدل الدولية وسحب أو تكميش اختصاصات الجمعية العامة التي تمثل برلمان العالم الحقيقي لصالح مجلس الأمن وإهمال أو ضعف الاختصاصات التنموية للأمم المتحدة وعلى رأسها اختصاص أو مهمة القضاء على الفقر وتعزيز التمتع بحقوق الإنسان كمنظومة مكتملة.

لا يمكن الفصل بين وظيفة صيانة السلم بين الشعوب والأمم والدول من ناحية ووظيفة ضمان وإعمال آليات العدل من ناحية ثانية. ولذلك فمن الضروري أن يدعو مشروع السلام الإسلامي لقدر كاف من الاهتمام بل والتركيز على قضية العدالة والقضية الاجتماعية فيما بين الدول وداخلها.

القضية الاجتماعية

المرأة جزء رئيسي في أي مشروع للسلام

هذه هي بعض العناصر والمقومات الأساسية في الاجتهاد الفقهي الضروري لطرح مشروع سلام عالمي. ولكن هذا المشروع ينطوي على مقومات أخرى. ففي الأوضاع الدولية الراهنة يعد الفقر والمرض والجهل أحد أهم إن لم يكن الإعاقة الأولى للسلام على مستوى الكون.

إننا نعني بالفقر لا مجرد العوز المادي أو العجز عن تلبية الحاجات الأساسية الضرورية لتجديد وصيانة الحياة الإنسانية وإنما نعني أيضا القصور في الخيال والموهبة وفي الشروط الذاتية لصنع اختيار متعلم وراق أخلاقيا ومجتمعيا بل نعني أيضا العجز عن صنع أفضل اختيارات ممكنه تصون وتعزز وتنمى مجموع الشروط الكلية المناسبة للحياة الإنسانية بما فيها الشروط البيئية (الكونية).

إن هذا العجز كامن في أنماط متخلفة للتنظيم الاجتماعي. وبكل أسف لم يتمكن فقهاء المسلمين القدامى والمحدثون من فهم واستيعاب هذه القضية بقدر كاف من العمق والمعرفة بعلوم المجتمع. ولذلك تبقى هذه المهمة أحد أبرز مجالات التفاعل بين الفقه والعلوم الاجتماعية والإنسانيات. ويمتد هذا التجاهل أو الفقر المعرفي إلى مختلف صور التنظيم الاجتماعي بما فيها ابسطها وعلى رأسها الأسرة وعلاقات النوع الاجتماعي. ولهذه القضية ارتباط عميق بقضية السلام حيث أن المرأة والطفل هم أكثر من يدفعون ضريبة الحروب.

إن أي مشروع للسلام لا يتعرض لقضية المرأة والطفل يبقى ناقصا بشدة. ويتعين على نشطاء حقوق الإنسان أن يتفاعلوا بكثافة مع الفقهاء والمفكرين الدينيين لإقناعهم بأهمية الاعتراف بحقوق المرأة والطفل كما استقرت في وجدان العالم واتفقت عليه الوثائق الدولية وعلى رأسها اتفاقية القضاء على صور التمييز ضد المرأة. ويجب الاجتهاد في بحث وسائل القضاء على الاتجار في الأطفال والقضاء على كافة صور العبودية الحديثة. كما يجب الاجتهاد لتأمين حصول المرأة والأطفال على حقوقهم المشروعة بما في ذلك حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية.

ترتبط قضية التنمية والقضاء على الفقر بالسلام والعدل معا بصورة عميقة للغاية. ويمكن القول بأن الجذور الحقيقية للتخلف كامنة في الأنماط التقليدية للتنظيم الاجتماعي بكل مستوياته. وعندما يحرم التنظيم الاجتماعي النساء والأطفال من حقوقهم الأساسية فهو أيضا يسبب فقرا شديدا في الخيال وفي الطاقة الضرورية لإنهاء الفقر والتخلف.

ويؤدي التخلف في التنظيم السياسي للمجتمع إلى نفس النتيجة. فالحرمان من حقوق وحريات الضمير والاعتقاد وحرية الفكر والتعبير إلى إفقار الخيال وتنضيب المعرفة الضرورية لإطلاق الطاقات الإنسانية في مجال الإعمار والنهوض الاقتصادي. ويشيع الفقر والبؤس وتتمكن الأمراض والأوبئة من افتراس ملايين الناس. كما تنطلق نزعات التعصب والعنف من كل قيد.

رسالة الإعمار والتنمية

ومن هذا المنطلق فإن مشروع السلام الذي يجب أن يحمل اسم الإسلام يجب أيضا أن يطرح رسالة الاعمار بمعنى التنمية والنهوض بالبيئة وشئون الكون والثقافة والمعرفة والظروف المادية الضرورية لأرقى صور الحياة الاجتماعية والإنسانية بما في ذلك تنمية وتطوير التنظيم الاجتماعي والسياسي على كافة المستويات. وبتعبير آخر يجب أن يشتمل مشروع السلام الإسلامي على المكونات والعناصر التالية:

أ‌) تطوير التنظيم الاجتماعي بما يطلق إمكانيات التعليم وإنتاج المعرفة ويعزز حريات الفكر والتعبير فضلا بالطبع عن حرية الاعتقاد وحرية الضمير التي يشدد عليها التصور القرآني للدعوة.

ب‌) تأكيد الضرورة الخاصة لتأمين المساواة أمام القانون والمساواة بين النوعين الاجتماعيين والمكانة الخاصة لحقوق الطفل بدون تمييز على أساس النوع أو الجنس أو أي اعتبار آخر.

ت‌) النهوض بالبيئة وإنعاشها كالتزام وتدبير ضروري لإعمار الكون وتوازنه وبالطبع لصيانة وتعزيز الحياة الإنسانية.

ث‌) المسئولية الخاصة للبشرية في إنهاء الفقر بكل أشكاله والعمل على تعميم قواعد العدالة بما في ذلك ضمان معاملة تفضيلية للبلاد والفئات الأكثر فقرا وصياغة برامج عمل محددة فضلا عن إعادة التفاوض حول الاتفاقيات الاقتصادية الدولية لتعزيز فرص البلاد الأكثر فقرا في التقدم السريع اقتصاديا واجتماعيا.

ج) وإذا كانت هذه العناصر الضرورية في مشروع للسلام الإسلامي فإن إطلاق هذا المشروع يحتاج بكل تأكيد إلى عمليات تمهيدية على المستويين السياسي والثقافي وهو ما نناقشه في الجزء الثاني من هذه الدراسة

No comments: