Tuesday, July 17, 2007

البديل الثالث أخطر من فتح وحماس

فهمي هويدي ـ الشرق الأوسط 18/ 7
هل ننتظر دعوة أوروبية لمحاولة الخروج من المأزق الفلسطيني؟ هذا السؤال ألح علي حين وجدت أن مصر ودولاً عربية أخرى دعت إلى ضرورة مد جسور الحوار بين حركة فتح وحماس، من دون أن يكون لهذه الدعوة صدى على أرض الواقع. في الوقت ذاته وجهت الحكومة الفرنسية دعوة إلى الفرقاء اللبنانيين لمحاولة البحث عن مخرج من الأزمة اللبنانية المستحكمة هناك. واستجاب الجميع والتقوا لمدة 48 ساعة في مقر لاسيل سان كلو بإحدى ضواحي باريس. وبرغم أن الاجتماع كان مغلقاً، وأن المشاركين طلب منهم ألا يتحدثوا إلى وسائل الإعلام بما جرى أثناء اللقاء، إلا أن من أهم دلالاته أنه أعاد حبل الحوار بين الإخوة الأعداء، فضلاً عن أن تبادل الكلام والتفكير المشترك في الأزمة شأنه أن يخفف من حدة التوتر القائم وأن يبعث الأمل في إمكانية التوصل إلى حل سلمي لما هو عالق من مشكلات.
لا بد أن يثير انتباهنا في هذا الصدد أن السيد عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية دخل على الخط من فترة ليست قصيرة، لكن جهوده لم تثمر شيئاً ايجابياً حتى الآن. وبدا من إشارات الإعلام اللبناني على الأقل أن التجاوب مع الوساطة الفرنسية أكبر منه عند الأطراف اللبنانيين من وساطة أمين الجامعة العربية. وفيما نشرته صحيفة السفير على الأقل في 14/7. فيبدو أن إطرافا عربية عملت على إفشال الحوار لحسابات معينة، الأمر الذي كان لا بد معه أن يتدخل طرف أوروبي لمحاولة «تليين» الموقف. ولست واثقاً من دقة هذه المعلومة، وسواء صحت أم لم تصح فواقع الحال يشي بأمرين لا مفر من الاعتراف بهما، الأول أن النظام العربي أصبح من الضعف بحيث لم يعد قادراً على أن يعالج هموم الواقع العربي. أما الثاني فهو أن النفوذ الغربي في العالم العربي يتزايد حيناً بعد حين، حتى أصبحت الأطراف المختلفة تقدر ذلك النفوذ وتعول عليه في صراعاتها المختلفة بأكثر مما تعول على غيره من المصادر ومراكز القوى الأخرى. الحالة اللبنانية نموذج يعبر عن هذه الحقيقة بوجهيها التي تتجلى أيضا وبصورة أكثر حدة في الحالة الفلسطينية. ذلك أننا في الساحة الفلسطينية أصبحنا بصدد اصطفاف مدهش ومحزن في ذات الوقت، هو مدهش لأننا نجد أن أبو مازن وجماعته قد احتشدوا ليس فقط مع القوى الغربية، وإنما مع إسرائيل أيضا، لضرب حركة حماس وكل جماعات المقاومة. وهذا الاصطفاف الغريب الذي جمع بين القتيل والقاتل في مربع واحد لتحقيق مصلحة مشتركة من الحالات النادرة في التاريخ. ثم إنه محزن لأن ذلك الاصطفاف استصحب تداعيات أساءت كثيراً إلى حركة فتح وشوهت تاريخها النضالي. وكان من بين تلك التداعيات ذلك التوافق بين رئاسة السلطة في رام الله وبين السلطات الإسرائيلية على تجويع غزة وتركيعها. والذي لا يقل غرابة عن ذلك هو الاتفاق الذي تم بين رئاسة السلطة والإسرائيليين على وقف ملاحقة الناشطين من عناصر فتح المنخرطين في تنظيم شهداء الأقصى الموجودين بالضفة الغربية، مقابل تسليم سلاحهم والتعهد بعدم الاشتراك في المقاومة، والانضمام إلى أجهزة الأمن التابعة للسلطة. وهو اتفاق من شأنه إضعاف الصف المقاوم من دون أي مقابل يقدمه الإسرائيليون. وتحويل المناضلين إلى موظفين في أجهزة الأمن. والهدف النهائي لذلك إخراج فتح من دائرة المقاومة الوطنية وإغواء مناضليها بالتحول إلى الحياة المدنية الرتيبة، ومن ثم تفرغ الإسرائيليين لملاحقة ناشطة لمنظمات المقاومة الأخرى، وحركتا حماس وفتح في المقدمة منها.
في الحالة الفلسطينية أطلقت دعوة الحوار بين المتخاصمين، لكن أحدا في العالم العربي لم يذهب إلى حد الدعوة لإجراء ذلك الحوار، الأمر الذي ألقى ظلالاً من الشك على مدى جدية الدعوة. في الوقت ذاته فقد أثبتت شواهد عدة أن ثمة أقطارا عربية دخلت في الاصطفاف البائس الذي سبقت الإشارة اليه، ومن ثم فإنها لعبت دور المحرض على القطيعة بين غزة والضفة، وليس الوسيط النزيه الساعي للحوار بين فتح وحماس. كما أن ثمة شواهد أخرى دالة على أن بعض الأطراف العربية التي تحمست للحوار ترددت في الدعوة اليه مجاملة للأمريكيين الذين لا يريدون حواراً، شأنهم في ذلك شأن الإسرائيليين، الذين يسعون لاستئصال حماس وليس الحوار معها.
احد الفروق المهمة بين الساحتين اللبنانية والفلسطينية أن الغرب يريد للبنان أن يبقى، وان يؤدي دوراً في المخططات المرسومة للمنطقة، سواء فيما يخص تصفية حزب الله أو إضعاف سورية أو ضرب إيران، في حين أن الغرب في الحالة الثانية لا يريد للفلسطينيين إلا بالقدر الذي تسمح به إسرائيل ولا يتعارض مع مصالحها. ومعروف أن هذا القدر لا يحتمل وجوداً من أي نوع للمقاومة، ولا يرضى بديلاً عن تمزيق الفلسطينيين وتركيعهم.
إن شئت فقل إن الدول الغربية ذات النفوذ القوي في المنطقة تريد دوراً للبنان، في حين لا تمانع من استئصال المقاومة وإجهاض الحلم الفلسطيني. وإذا صح ذلك فلا يستغرب من أن تسعى الدول الغربية لحل يخرج لبنان من مأزقه، وأن يتجه السعي الغربي في الحالة الفلسطينية ليصب في مسار معاكس تماماً، فينتهي بتصفية القضية الفلسطينية وإغلاق ملفها بالكامل. ولست استغرب في هذا السياق شكوك الكثيرين في أن تكون هذه مهمة رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، الذي عين مؤخراً مبعوثاً للرباعية الدولية إلى الشرق الأوسط. وهي مهمة لا تكاد تختلف في جوهرها عن وظيفة الحارس القضائي الذي تعينه المحاكم أو الجهات المعنية لتصفية أوضاع قانونية معينة.
والأمر كذلك، فلست استبعد أن يستمر أبو مازن وجماعته في تجاهل الدعوة إلى الحوار، وان يضع لإجراء ذلك الحوار شروطاً يستحيل قبولها من جانب الطرف الآخر، طالما اطمأن إلى التأييد الغربي له، وإلى المعسكر الذي اصطف إلى جانبه، وطالما استمر التردد العربي في تفعيل دعوة الفصائل الفلسطينية إلى طاولة الحوار.
غير أن استمرار الضغط للإبقاء على الموقف كما هو، أملا في أن ينتهي الأمر بإسقاط حكومة حماس في غزة، قد يضع الجميع إزاء نتائج واحتمالات لا تخطر على البال. ولئن قيل في المواجهات العسكرية أنك قد تستطيع أن تتحكم في طلقة الرصاص الأولى، لكن التحكم في الطلقة الأخيرة ليس مضموناً دائماً، فكذلك الحال في الصراعات السياسية. فقد تبدأ على نحو خاضع للتخطيط والترتيب، لكنها تنتهي بأوضاع أخرى غير محسوبة على الإطلاق. وانفلات العيار في العراق ولبنان دال على ذلك، إذ أن الجميع في العراق يعانون الآن الأوضاع التي لم تمض كما كان مخططا لها، وأصبحت خارج السيطرة. كما أن ظهور جماعة فتح الإسلام في لبنان غير المعادلة. ووضع الطرفين المتخاصمين أمام خطر ثالث تحداهما معاً.
لا احد يضمن تكرار المشهد في فلسطين. فالتشققات المكتومة التي كانت قائمة في بنيات حركة فتح. تحولت إلى شروخ عميقة في الآونة الأخيرة، وحادث فصل قيادي له وزنه مثل هاني الحسن من حركة فتح من أبرز القرائن الدالة على ذلك. كما أن دخول حماس في الحلبة السياسية أثار حفيظة بعض «الجهاديين» الذين لم يؤمنوا إلا بالقتال المسلح ضد إسرائيل، ورفضوا العملية السياسية بكل مفرداتها وعناوينها. وهذا التطور حين اقترن بأجواء الحصار والتجويع، التي استثمرتها إسرائيل في تكثيف اجتياحاتها واغتيالاتها، فانه هيأ مناخاً موازياً لظهور فكر القاعدة، الذي يتجاوز الجميع ويصب جمام غضبه على «الصهاينة» على حد تعبيرهم.
قبل عدة أشهر كتبت في هذا المكان مقالة كان عنوانها: إذا كانت حماس والجهاد هي المشكلة، فان القاعدة هي الحل. وفي النص المنشور حذرت من الذهاب بعيداً في محاولة إقصاء واستئصال حركتي المقاومة المذكورتين باعتبار أن لهما «عقلا» في نهاية المطاف. وقلت إن تلك المساعي قد تحدث فراغاً لن يملؤه إلا تنظيم ثالث يزايد على الجميع ولا عقل له.
ففي الصحافة الإسرائيلية كتابات لبعض العقلاء تحذر من تعميق القطيعة بين الضفة وغزة، ومواصلة الحرب الاستئصالية ضد حماس، وتنصح بعدم السير وراء عناد أبو مازن وتحريض الفريق المحيط به، الذي أصبح التعلق بأهداب السلطة مسألة حياة أو موت بالنسبة لأركانه ممن يخوضون الآن معركتهم الأخيرة، غير أن تلك الأصوات غير مؤثرة في القرار السياسي، لأن الإستراتيجية الإسرائيلية في الوقت الراهن تعتبر أن تصفية حركة حماس والجهاد الاسلامي هدفاً أساسياً لها، وان الظروف المتوافرة فلسطينياً وربما عربياً تشكل فرصة تاريخية لتحقيق ذلك الهدف قد لا تعوض.
إن احتمال ظهور البديل الثالث، الذي يرفض حركة فتح وحماس معاً، ليس مستبعداً تماماً، لأن استمرار الضغوط الراهنة إذا ما أدى إلى إسقاط حكومة حماس أو شل حركتها فان قيادات فتح الراهنة التي انفضح أمرها وكشفت الوثائق حقيقتها، لن تكون قادرة على ملء الفراغ الناشئ عن ذلك الاحتمال. وفي هذا الحال فإن الظروف قد تصبح مهيأة لتقدم البديل الثالث، الذي قد يمثل استجابة للظرف التاريخي، ونتاجاً طبيعياً لقسوة الضغوط المحلية والإقليمية والدولية. وإذا حدث الاحتمال الأسوأ الذي سبقت الإشارة اليه، فسوف يصبح الخطر مهدداً الجميع، خصوصاً دول الجوار، وحينئذ لن ينفع الندم أحدا.

No comments: