بقلم: د. محمد كمال ـــ أهرام السبت 28/7
تمثل الانتخابات البرلمانية التي اجريت في تركيا في الاسبوع الماضي تجربة جديرة بالاهتمام والدراسة من عدة نواح. فقد تميزت هذه الانتخابات بنسب مشاركة عالية في التصويت بلغت84% من عدد الناخبين المسجلين والبالغ42 مليون ناخب, وبارتفاع عن نسبة المشاركة في الانتخابات السابقة والتي اجريت عام2002, وبلغت نسبة التصويت فيها79%( وكلتاهما نسب تصويت مرتفعة تحسب للتجربة الديمقراطية التركية).كما شهدت الانتخابات مشاركة ايجابية من القوي السياسية المختلفة تمثلت في14 حزبا و700 مرشح مستقل تنافسوا علي مقاعد البرلمان. وتتبني تركيا نظاما انتخابيا يجمع بين القوائم الحزبية والمقاعد الفردية التي تتيح الفرصة للمرشحين المستقلين غير الحزبيين. وتقدم الاحزاب قوائمها الانتخابية علي مستوي المقاطعات, وليس قائمة واحدة علي مستوي البلاد كلها, ولكن يشترط ان يتقدم الحزب بقوائم في نصف المقاطعات علي الاقل, كما يشترط حصول قائمة الحزب علي نسبة10% من الاصوات علي المستوي القومي كي يكون له تمثيل في البرلمان. وقد وجه البعض انتقادات لهذه النسبة باعتبارها مرتفعة, ولكن ايدها البعض الاخر علي اساس انها ساهمت في استقرار الحكومة ومنع تفتت النظام السياسي بسماحها للاحزاب الكبري فقط بالتمثيل في البرلمان سواء كانت احزاب اغلبية او معارضة. وقد اسفرت الانتخابات الاخيرة عن حصول ثلاثة احزاب فقط علي نسبة10% احدها حزب الاغلبية والذي حصل علي نسبة47% من الاصوات تم ترجمتها الي340 مقعدا من مقاعد البرلمان( من اصل550 مقعدا). والواقع ان النظام الانتخابي التركي هو ايضا جدير بالدراسة في اطار بحثنا عن النظام الانتخابي الامثل وخاصة تحقيق هدف تقوية الاحزاب من خلال تمثيلها بشكل افضل في البرلمان, واتاحة فرصة للمرشحين المستقلين للتنافس علي مقاعد فردية. وكذلك تحقيق تمثيل افضل للمرأة حيث فازت حوالي50 امرأة في الانتخابات التركية الاخيرة تم ترشيحها علي قوائم الاحزاب.شهدت الانتخابات التركية ايضا التزاما بقواعد الدستور والقانون المتعلقة بحظر اي نشاط انتخابي او دعاية انتخابية علي اساس ديني. كما التزمت البرامج الانتخابية للاحزاب بالتأكيد علي الطابع المدني للدولة التركية. والواقع ان الدستور التركي يتضمن نصا واضحا في هذا الشأن, بل ينص ايضا علي حل اي حزب يخالف هذه المبادئ. وقد التزم حزب العدالة والتنمية_ والذي يصنفه البعض بالخطأ او الجهل علي انه حزب ذو مرجعية دينية_ بهذه المبادئ. ونص البرنامج الانتخابي لهذا الحزب_ والمنشور علي شبكة الانترنت_ علي ان الحزب' يرفض استغلال القيم الدينية المقدسة او استخدامها لتحقيق اهداف سياسية ويعتبر ان المواقف والممارسات التي تميز بين المواطنين نتيجة تفضيلاتهم الدينية معارضة للديمقراطية ومناقضة لحقوق وحريات الانسان'. بل واعلن زعيمه رجب طيب اردوغان بعد الفوز بالانتخابات بان حزبه وحكومته ملتزمان بالمبادئ التي قامت عليها الجمهورية التركية ومبادئ اتاتورك مؤسس الدولة.ومع ان تركيا وضعت قواعد واضحة لحظر استخدام الدين لتحقيق اهداف سياسية( وهي قواعد جديرة ايضا بالدراسة), وساهمت بشكل كبير في نمو التجربة الديمقراطية في تركيا وتطور القوي السياسية المختلفة في اطار النظام السياسي, الا ان الدولة التركية تبنت مفهوما متطرفا للعلمانية يصعب قبوله في اي دولة يكون غالبية سكانها من المسلمين بل ومن اتباع اي دين اخر, وجعل من الدولة خصما للدين, وضد اي مظهر من مظاهر التدين وهو ما يتعارض مع ابسط قواعد حرية الاعتقاد وحرية التعبير.علي سبيل المثال ينص القانون التركي علي حظر دخول المحجبات المنشآت العامة مثل المدارس والجامعات الحكومية او مبني البرلمان. فهل يمكن تصور مثلا منع طالبة محجبة من دخول جامعة القاهرة او منع نائبة برلمان محجبة من دخول مجلس الشعب, او حتي تصور منع راهبة ترتدي زيها التقليدي من دخول الكونجرس الامريكي. وقد ادي هذا التطرف في تطبيق النموذج التركي للعلمانية الي حالة استقطاب فكري وايديولوجي مازال يعاني منها المجتمع التركي.واخيرا تؤكد تجربة الانتخابات التركية ان السبب الاساسي لنجاح حزب العدالة والتنمية ليس قيامه بمواجهة القوي العلمانية المتشددة بشأن قضايا الهوية والثقافة ولكن ما حققه علي ارض الواقع من انجازات اقتصادية خلال السنوات السابقة, ومنها تحقيق معدل نمو اقتصادي سنوي بلغ3,7% وهو ما يمثل اربعة اضعاف معدل النمو في دول الاتحاد الاوروبي, ومعدل جذب استثمارات اجنبية مباشرة بلغ20 مليار دولار, وخفض مستويات التضخم, وتقوية قيمة العملة المحلية, وخفض معدلات البطالة, وتحسين مستوي الحياة للملايين من الاتراك وتمتعهم بمستوي حياة الطبقي الوسطي وخاصة في المناطق الريفية. وادي هذا التحسن الاقتصادي الي موافقة الاتحاد الاوروبي علي فتح المفاوضات حول عضوية تركيا في الاتحاد وهو هدف فشلت الحكومات التركية السابقة في تحقيقه, وادي كل ذلك الي رفع نسبة الاصوات التي حصل عليها الحزب من34% في انتخابات2002 الي حوالي47% في انتخابات2007.وهكذا تعلمنا تجربة الانتخابات التركية ان تحسين الاحوال الاقتصادية للمواطن ومستوي معيشته هو اقصر طريق للحصول علي صوته في الانتخابات, وهو اقوي من اي شعار اجوف او قضايا نظرية لا تمس حياة المواطن.... وتظل تركيا تجربة جديرة بالدراسة.
تمثل الانتخابات البرلمانية التي اجريت في تركيا في الاسبوع الماضي تجربة جديرة بالاهتمام والدراسة من عدة نواح. فقد تميزت هذه الانتخابات بنسب مشاركة عالية في التصويت بلغت84% من عدد الناخبين المسجلين والبالغ42 مليون ناخب, وبارتفاع عن نسبة المشاركة في الانتخابات السابقة والتي اجريت عام2002, وبلغت نسبة التصويت فيها79%( وكلتاهما نسب تصويت مرتفعة تحسب للتجربة الديمقراطية التركية).كما شهدت الانتخابات مشاركة ايجابية من القوي السياسية المختلفة تمثلت في14 حزبا و700 مرشح مستقل تنافسوا علي مقاعد البرلمان. وتتبني تركيا نظاما انتخابيا يجمع بين القوائم الحزبية والمقاعد الفردية التي تتيح الفرصة للمرشحين المستقلين غير الحزبيين. وتقدم الاحزاب قوائمها الانتخابية علي مستوي المقاطعات, وليس قائمة واحدة علي مستوي البلاد كلها, ولكن يشترط ان يتقدم الحزب بقوائم في نصف المقاطعات علي الاقل, كما يشترط حصول قائمة الحزب علي نسبة10% من الاصوات علي المستوي القومي كي يكون له تمثيل في البرلمان. وقد وجه البعض انتقادات لهذه النسبة باعتبارها مرتفعة, ولكن ايدها البعض الاخر علي اساس انها ساهمت في استقرار الحكومة ومنع تفتت النظام السياسي بسماحها للاحزاب الكبري فقط بالتمثيل في البرلمان سواء كانت احزاب اغلبية او معارضة. وقد اسفرت الانتخابات الاخيرة عن حصول ثلاثة احزاب فقط علي نسبة10% احدها حزب الاغلبية والذي حصل علي نسبة47% من الاصوات تم ترجمتها الي340 مقعدا من مقاعد البرلمان( من اصل550 مقعدا). والواقع ان النظام الانتخابي التركي هو ايضا جدير بالدراسة في اطار بحثنا عن النظام الانتخابي الامثل وخاصة تحقيق هدف تقوية الاحزاب من خلال تمثيلها بشكل افضل في البرلمان, واتاحة فرصة للمرشحين المستقلين للتنافس علي مقاعد فردية. وكذلك تحقيق تمثيل افضل للمرأة حيث فازت حوالي50 امرأة في الانتخابات التركية الاخيرة تم ترشيحها علي قوائم الاحزاب.شهدت الانتخابات التركية ايضا التزاما بقواعد الدستور والقانون المتعلقة بحظر اي نشاط انتخابي او دعاية انتخابية علي اساس ديني. كما التزمت البرامج الانتخابية للاحزاب بالتأكيد علي الطابع المدني للدولة التركية. والواقع ان الدستور التركي يتضمن نصا واضحا في هذا الشأن, بل ينص ايضا علي حل اي حزب يخالف هذه المبادئ. وقد التزم حزب العدالة والتنمية_ والذي يصنفه البعض بالخطأ او الجهل علي انه حزب ذو مرجعية دينية_ بهذه المبادئ. ونص البرنامج الانتخابي لهذا الحزب_ والمنشور علي شبكة الانترنت_ علي ان الحزب' يرفض استغلال القيم الدينية المقدسة او استخدامها لتحقيق اهداف سياسية ويعتبر ان المواقف والممارسات التي تميز بين المواطنين نتيجة تفضيلاتهم الدينية معارضة للديمقراطية ومناقضة لحقوق وحريات الانسان'. بل واعلن زعيمه رجب طيب اردوغان بعد الفوز بالانتخابات بان حزبه وحكومته ملتزمان بالمبادئ التي قامت عليها الجمهورية التركية ومبادئ اتاتورك مؤسس الدولة.ومع ان تركيا وضعت قواعد واضحة لحظر استخدام الدين لتحقيق اهداف سياسية( وهي قواعد جديرة ايضا بالدراسة), وساهمت بشكل كبير في نمو التجربة الديمقراطية في تركيا وتطور القوي السياسية المختلفة في اطار النظام السياسي, الا ان الدولة التركية تبنت مفهوما متطرفا للعلمانية يصعب قبوله في اي دولة يكون غالبية سكانها من المسلمين بل ومن اتباع اي دين اخر, وجعل من الدولة خصما للدين, وضد اي مظهر من مظاهر التدين وهو ما يتعارض مع ابسط قواعد حرية الاعتقاد وحرية التعبير.علي سبيل المثال ينص القانون التركي علي حظر دخول المحجبات المنشآت العامة مثل المدارس والجامعات الحكومية او مبني البرلمان. فهل يمكن تصور مثلا منع طالبة محجبة من دخول جامعة القاهرة او منع نائبة برلمان محجبة من دخول مجلس الشعب, او حتي تصور منع راهبة ترتدي زيها التقليدي من دخول الكونجرس الامريكي. وقد ادي هذا التطرف في تطبيق النموذج التركي للعلمانية الي حالة استقطاب فكري وايديولوجي مازال يعاني منها المجتمع التركي.واخيرا تؤكد تجربة الانتخابات التركية ان السبب الاساسي لنجاح حزب العدالة والتنمية ليس قيامه بمواجهة القوي العلمانية المتشددة بشأن قضايا الهوية والثقافة ولكن ما حققه علي ارض الواقع من انجازات اقتصادية خلال السنوات السابقة, ومنها تحقيق معدل نمو اقتصادي سنوي بلغ3,7% وهو ما يمثل اربعة اضعاف معدل النمو في دول الاتحاد الاوروبي, ومعدل جذب استثمارات اجنبية مباشرة بلغ20 مليار دولار, وخفض مستويات التضخم, وتقوية قيمة العملة المحلية, وخفض معدلات البطالة, وتحسين مستوي الحياة للملايين من الاتراك وتمتعهم بمستوي حياة الطبقي الوسطي وخاصة في المناطق الريفية. وادي هذا التحسن الاقتصادي الي موافقة الاتحاد الاوروبي علي فتح المفاوضات حول عضوية تركيا في الاتحاد وهو هدف فشلت الحكومات التركية السابقة في تحقيقه, وادي كل ذلك الي رفع نسبة الاصوات التي حصل عليها الحزب من34% في انتخابات2002 الي حوالي47% في انتخابات2007.وهكذا تعلمنا تجربة الانتخابات التركية ان تحسين الاحوال الاقتصادية للمواطن ومستوي معيشته هو اقصر طريق للحصول علي صوته في الانتخابات, وهو اقوي من اي شعار اجوف او قضايا نظرية لا تمس حياة المواطن.... وتظل تركيا تجربة جديرة بالدراسة.
No comments:
Post a Comment